أنهيتُ قراءة كتاب "النبذة اليسيرة في تاريخ الدولة العلوية
الشهيرة" ومعه كتاب "العلاقات الأثيرة للحافظ عبد الحي الكتاني بملوك
الدولة العلوية الشهيرة"، الأول للشيخ العلامة الكبير سيدي عبد الحي الكتاني
رحمه الله، والثاني لمحبه المهتم بتحقيق تراثه الأستاذ سيدي عبد الهادي جمعون وفقه
الله، فاستمتعت بقراءتهما.
أما الأول فقد ألفه
الشيخ عبد الحي استجابة لطلب تلميذه السيد الفقيه سيدي عبد الوهاب محمد بن عبد
النبي بن جلون الفاسي الذي سأله على لسان الفرنسي كارناجود مراقب الأملاك بناحية
الشاوية وتادلة، أن يكتب له تاريخا مختصرا عن الدولة العلوية الشريفة، فيذكر له
مؤسسها وملوكها، وسنة ولادة ووفاة وولاية كل واحد منهم..
فجاء هذا التاريخ
مختصرا مفيدا، بقراءته تعلم أسماء أولئك الملوك، ومدة حكمهم، وطريقة وفاتهم..
ومما يثير انتباهك، كثرة من ثار ضدهم وقام عليهم، من أبنائهم، وإخوانهم، وأبناء إخوانهم، وغيرهم، وسيلان الدم الكثير بينهم ! فمن يطلب ملك الدنيا ويظن أنه سيرتاح فإنما يحلم ويطلب الوهم.
ومما يثير انتباهك، كثرة من ثار ضدهم وقام عليهم، من أبنائهم، وإخوانهم، وأبناء إخوانهم، وغيرهم، وسيلان الدم الكثير بينهم ! فمن يطلب ملك الدنيا ويظن أنه سيرتاح فإنما يحلم ويطلب الوهم.
وقد يُعدد الشيخ عبد
الحي بعض مآثر أولئك السلاطين، ويثني على بعضهم، كثنائه على السلطان المولاى محمد
بن عبد الله، والسلطان المولى سليمان.
أما حين ذَكر السلطان
عبد الحفيظ، ذمّه، ونَعته بأوصاف قبيحة، وكيف لا وهو الذي أرضى الفرنسيين باعتقال
أسرة هذا الشيخ في السجن، وقتل فيه شقيق المؤلف الأكبر العارف الأشهر الشيخ سيدي
محمد بن عبد الكبير الكتاني، وقد كان يُظن به أنه سيجاهد الفرنسيين، لكنه خان ثقة
الشعب به، فأذله الله بعد عِزه.
وإذا كانتِ المحن قد تكون
شديدة لكنها قد لا تدوم فتأتي العافية، فقد انكشفت الغُمّة وجاءت المِنحة حين
اعتلى عرش المملكة السلطان المولى يوسف، ففتح لهم الزوايا، وأعاد للمترجم وأسرته
الاعتبار، فتناثرت على الشيخ عبد الحي الظهائر الشريفة التي تدعوا عمال السلطان
إلى توقير المؤلف وتقديره واحترامه هو ومن يتمسك بأهدابه، فأطلق الشيخ قلمه
بالثناء عليه، فقال عنه أنه: ( ألين إخواته عريكة، وأحسنهم طريقة، شديد الحياء،
حسن الوجه، جمع صفات الخير، معتن بدينه )، فصّدق فِعل هذا السلطان ما جاء في
الحديث الشريف: ( أطلبوا الخير عند حسان الوجوه ).
وأعجبني النص الذي نقله
لنا المحقق في مقدمة الكتاب، والذي اقتبسه من كتاب المؤلف المُعَنون: "تاريخ
بيوتات درن وزواياه ورجاله"، وفيه يُعَرِّف الشيخ عبد الحي بتلميذه الفقيه
عبد الوهاب بن جلون الفاسي رحمه الله، فقد أثنى عليه بكلمات تُظهر محبته له، وعطفه
وحنوه عليه، وحزنه وأسفه على فقده..
وقد جرت العادة أنْ يكون التلميذ والمُريد هو من يترجم لشيخه
ومعلمه، فيطلق عليه الألقاب الرنانة ويصفه بالأوصاف العالية التي تشير إلى علو
مرتبة شيخه وأستاذه، لكن الحالة هنا انكعست، فأثنى الشيخ على التلميذ وشكره وخلّد
في كتابه ذِكره.
أما كتاب
"العلاقات الأثيرة"، فقد جمع فيه الاستاذ عبد الهادي جمعون ظهائر
سلطانية وُجهت إلى الشيخ عبد الحي الكتاني، تدل على مكانته العالية لدى سلاطين
الدولة العلوية الذين عاصرهم، وترُدُّ ما ذكره المؤرخ خير الدين الزركلي رحمه الله
في "أعلامه" أن الشيخ عبد الحي ( كان منذ نشأته على غير ولاء للأسرة
العلوية المالكة )، بل كان على العكس من ذلك، فراسلهم وراسلوه، وفي رسائلهم إليه
ترى الاعتراف بعلمه وفضله..
وبالاطلاع على تلك
الظهائر، يعترف القارئ بمقدرة وكفاءة كُتَاب أولئك السلاطين، وأنهم فرسان الأدب،
يملكون ناصية القلم، ينقاد لهم كما يحبون، فيُعبر عن المعاني التي يريدون بأرقى
عبارة وأجْودها..
وقد أثبتَ لنا المؤلف صُوَر تلك
الظهائر، وفي الكتاب فوائد تاريخية وأدبية..