هذا
عنوان مقالٍ كتبه الأستاذ الدكتور إبراهيم حركات، ونشرته مجلة "اللسان العربي"،
العدد الرابع، الصادر سنة 1386هـ/ 1966م، وفيه الجواب عن تعجب الكثير من المغاربة
عن وجود كلمات في دارِجتنا هي من فصيح اللغة العربية !
قال الدكتور في مقدمة مقاله : «
ليس من قبيل التعصب الضيق أن نصل إلى هذه الحقيقة التي يحددها عنوان هذا البحث
الصغير، فالمسألة لها جانب تاريخي واجتماعي قبل كل شيء، ذلك أن المغرب بحكم عدم
اختلاط أهله بأجناس كثيرة منذ ما قبل الإسلام وبعده، لم تفسد لهجته بقدر ما فسدت
في مناطق أخرى.
فالمغرب لم يُبل بحكم التتر، ولا الأتراك، والدول الفارسية، ولا غيرها من العناصر التي من شأن اختلاط العرب بها أن يُؤثر في لغتهم بقدر قليل أو كثير، وقد وقع ذلك في البلاد الشرقية، خاصة مصر والشام ».
فالمغرب لم يُبل بحكم التتر، ولا الأتراك، والدول الفارسية، ولا غيرها من العناصر التي من شأن اختلاط العرب بها أن يُؤثر في لغتهم بقدر قليل أو كثير، وقد وقع ذلك في البلاد الشرقية، خاصة مصر والشام ».
ثم بين الدكتور أنَّ المغرب عرفَ دخول بعض عناصر مختلفة من دول أخرى، لكنها لم تكن ذات تأثير يستحق « الذكر بالقياس إلى الأثر الذي خلفه في ميدان اللغة وفود العرب الفاتحين، ثم هجرة بني هلال وبني سليم التي خلفتْ أضراراً سياسية واجتماعية بالغة، فإنها سَجلت أعظم أثر في تكوين اللهجة الدارجة الأصلية بالمغرب ».
ثم أضاف عاملا ثالثاً كان له
التأثير العظيم في تكوين الدارجة المغربية ومنه استمدت الكثير من أصولها، وهو هجرة
بني الأندلس إلى المغرب، بل إن « اللهجة الحضرية بعدد من مدن المغرب، كفاس، وتطوان،
وسلا، والرباط، أكثرها مستمد من أصول أندلسية ».
وقال أن مما تميزت به اللهجة الأندلسية، أنها « تحتفظ بطابع عربي أصيل ».
ثم
تكلم عن رسالة لمؤلف مجهول من القرن التاسع الهجري، عنوانها : "الجمالة في
إزالة الرطانة"، وضعها مؤلفها لتقويمها وتصحيح أخطاء انتقلت إليها لابد من
تجنبها..
فإن كان كلما ظهر اعوجاجٌ في المسير ظهر من يُقومه ويُصلحه، علمتَ أن علامات الصّحة ستدوم، وأن فصاحة اللسان ستتوارثها الأجيال على مدى قرون وقرون.
ثم ذكر الدكتور إبراهيم حركات أن
« فصاحة البوادي، كالنواحي الصحراوية، وناحية الشاوية، أعرق منها في الحواضر، إذ
الاحتكاك بالعناصر الأجنبية منذ دخول العرب إلى هذه النواحي، كان أقل منه في جهات
أخرى ».
وأعطى
أمثلة على مفردات هي من فصيح اللغة، لا يزال المغاربة يتداولونها في دارجتهم،
كقولهم : « فلان مضروب على كذا (وهي لهجة سلا والرباط)، وأصله من ضرب الشيء إذا
تطبع به وأولع به ». ومثال آخر قال : « وكذلك نقول: ضربه الله بمعنى أضله ».
و
قولهم : « سَكّرْ الباب(بمعنى أغلقه) وأصله من السريانية »، وغيرها..
ثم ذكر بعض أوجه تشابه الدارجة المغربية بالدارجة اليمنية.
ثم
أثنى على فصاحة أهل الصحراء « في المنطقة
التي تمتد من كليمين إلى مورطانيا »، وأنهم ممن يرتجلون الشعر ارتجالا، وهو من
الأمور المألوفة عندهم في كل أسرة تقريباً، وحكى قصةً وقعتْ له حين زيارته لتلك
الأماكن تدل على صحة ما ذكر، قال : « قد أتيح لي منذ سنتين تقريباً أن ألمس هذه
الحقيقة عن كثب في تلكم الجهة القاصية من المغرب، حيث تحدثتُ إلى مسؤول في أعماق
الصحراء، اعترف لي بأنه لا يحسن القراءة ولا الكتابة، ولكنه أنشدني من شعر ابن
الرومي والمتنبي وغيرهما شيئاً كثيراً !
وزوّدني
بعض فضلائهم بقصائد من إنتاجهم غاية في الجزالة.
وبيْن
طانطان وكليميم تقع مقهى متواضعة لا يسع من لفَحَه حرّ الصحراء أو اعتاد البساطة
في الاختلاط بالناس إلا أن يُعرج عليها، وما كدتُ أدخل بابها حتى بادَرتُ رَبّها
مُداعباً بعد السلام : "وأنت يا أخي تحفظ أيضاً من الشعر نصيباً ؟"، فما
أمهلني حتى نثر من كنانته سهاماً، وقد رأيته يقبع في زاوية مظلمة من مقهاه وهو
يُطارح رفيقاً له، فاستغربت كيف تنفذ الفصاحة والمنطق العذب إلى ربع أنأى ما يكون
عن العمران وأقرب ما يكون إلى المفازة التي لا أنيس فيها ولا ما يشجع على المقام ».
وهذا الاستغراب الذي حكاه الدكتور
لا تزال تسمعه من إخوان وأصدقاء ممن يزور تلك المناطق البعيدة من بلادنا، وقد علت
وجوههم علامات الدهشة كيف أن أهل تلك البقاع لهم دراية باللغة العربية وأنهم
ينظمون قصائد الشعر الموزون الذي يختزن كل معنى جميل..
وبالله
التوفيق.