اشتريتُ هذا الصباح هذه الرسالة اللطيفة، لمؤلفها
العلامة الأديب الفقيه القاضي الداعية سيدي علي الطنطاوي عليه رحمة المولى الباري،
وهي ثاني رسالة أقرأها له وأنا بمدينة مراكش، دفعني لشرائها أنني أحببت الأولى،
ومررتُ بجانب المكتبة التي كنت اشتريتها منها، فقلت أدخل ألقي نظرة، فما خرجتُ
منها إلا والرسالة في يدي، ونعم الغنيمة هي.
والشيخ علي الطنطاوي السوري رجل مشهور، محبوب، له مؤلفات عديدة
قيمة مفيدة، مطبوعة منتشرة، أخذ عنه الكثير من الأعلام، وعانى من نظام البعث السوري
الذي دمر سوريا وشرد أهلها.. وكانت وفاته سنة 1999م بإحدى مستشفيات جدة بالسعودية،
ودفن بمكة.
وهذه الرسالة المعنونة "يا ابني"، لقيت
القبول، وطُبعت في عدة بلدان، وتُرجمت إلى الانجليزية والأوردية، وانشترت انتشارا
كبيرا..
وهو هنا لا يقصد بها ولده من صلبه، بل هي موجهة لأحد
الشباب الذين راسلوه، يَحكي له بالصريح لا المرموز، عن معاناته مع الشهوة التي
تفجرت فيه حين بلغ سن الخامسة عشرة أو ست عشرة سنة، ولعل هذا الشاب لمْ يراسله إلا
بعد أن قرأ له، وعلم أن الرجل حكيم، يحسن الإنصات، وستكون توجيهاته مفيدة صائبة
فيها علاج ما يعنايه ودواء ما أصابه..
فكان أول ما أجابه به الشيخ: ( لِماذا تَكتب إليَّ على تردد واستحياء ؟ أتحسب أنك أنت وحدك الذي يحسُّ هذه الوِقدة في أعصابه مِن ضَرم الشهوة، وأنك وَحدكَ الذي اختُصَّ بها دون الناس ؟ لا يا بُني، هوِّنْ عليك، فليس الذي تشكو داءك وحدك، ولكنه داء الشباب ).
لاشك أن هذا الشاب حين قرأ هذه الكلمات التي افتتح بها
الشيخ علي الطنطاوي جوابه، غمرته الفرحة، وشعر براحة كبيرة، وذهب عنه كل التوتر،
وأقبل على قراءة ما بعدها وهو مطمئن البال غير خائف ولا وجل..
ولاشك أنه ما التجأ لمراسلة الشيخ الطنطاوي إلا لأنه لا
يقدر على مُصارحة والده، فإما أن يكون والده قد توفي، أو أن فيه غلظة إذا حدثه في
الموضوع سينتهره أو يسبه وينعته بقلة الحياء، أو على الأقل سيشيح بوجهه عنه، أو أن
والده لا يُحاور أبناءه ويجعل بينه وبينهم حواجز تمنعهم من محادثته في مثل هذه
المواضيع..
فمِن سعادته أنه وجد مثل هذا العالم العاقل النابغة
الحكيم، يُنصت إليه باهتمام، ويقتطع من وقته الثمين الغالي ليجيبه على تساؤلاته،
ومِن خلاله يوجه جوابه لكل شباب الأمة، فهذه المعاناة يتشاركونها كلهم.
قال له: ( إنَّهُ ما أشرف على مثل سنك أحد إلا وتوقّد في
نفسه شيء كان خامدا، فأحس حرّه في أعصابه، وتبدلت في عينيه الدنيا غير الدنيا،
والناس غير الناس، فلم يعد يرى المرأة على حقيقتها إنسانا من لحم ودم، له ما
للإنسان من المزايا وفيه ما فيه من العيوب، ولكنْ أمَلا فيه تجتمع الآمال، وأمنيّة
فيها تلتقي الأماني...(
ثم يذكر له ما تدعوه إليه سنة الله وطبيعة النفس، ألا
وهو الزواج، وما يدعوه إليه مجتمع اليوم، والشرور التي قد يقع فيها، ومصير من وقع
فيها، ويضرب له الأمثال ليقرب إليه المعنى، ويحبب إليه طريق الطهر...
يقول له: ( الدواء أن نعود إلى سنة الله، وطبائع الأشياء التي طبعها عليها، إن الله ما حرم شيئا إلا أحل شيئا مكانه، حرّم المراباة وأحلَّ التجارة، وحرم الزنا وأحل الزواج، فالدواء هو الزواج، الزواج وحده طريق الاصلاح..).
إلى أن قال: ( فإذا لمْ يتَيسر لك طريق الزواج ولم تُرِد الفاحشة، فليس لك إلا التَّسَامي ... فالتّسامي هو أن تُنفّس عن نفسك بجُهد رُوحي، أو عقلي، أو قلبي، أو جَسدي، يستنفذ هذه القدرة المُدَّخرة، ويُخرج الطاقة المَحبوسة، بالالتجاء إلى الله، والاستغراق في العبادة، أو بالانقطاع إلى العمل والانغماس في البحث، أو بالتفرغ للفن والتعبير أو بالجهد الجسدي والإقبال على الرياضة، والعناية بالتربية البدنية أو بالبطولة الرياضية ... هذا هو الدواء: الزواج، وهو العلاج الكامل، فإنْ لم يكن فالتسَامي، وهو مُسكّن قوي، ينفع ولا يُؤذي ).
ثم يختم رسالته له بقوله: ( وبعد يا بُني، فلا تتردد في
الكتابة إليّ إنْ لم يُرضك هذا الجواب، ولا تستحيي مما تجد من حرّ هذه الشهوة التي
ركّبها الله في النفس، إنها علامة القوة والأيْد والشباب..).
رحم الله الشيخ علي الطنطاوي ورضي عنه، لقد كان من أطباء
القلوب.
ولمثل هذا الرجل فليقرأ الإنسان، ليزداد علما وحكمة.