الأربعاء، 1 ديسمبر 2021

كتاب هداية أهل الخصيصة للإمام الشهيد سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني رحمه الله تعالى


 

أتممتُ اليوم قراءة هذا الكتاب، أهداه لي الشيخ الدكتور المحقق سيدي حمزة بن علي الكتاني جزاه الله خيرا، ألَّفهُ الإمام الرباني الشيخ سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني، وهو أحد كبار وأشهر رجالات العلم والتصوف ببلاد المغرب الأقصى في القرن المنصرم، وأحد الذين ذاع واشتهر اسمهم في المغرب والمشرق،

ولد سنة 1290هـ، وتوفي في مثل هذا الشهر من سنة 1327هـ/1909م، أي أن عمره حين توفي لم يتجاوز السابعة والثلاثين  !

قتله السلطان عبد الحفيظ، عَذبه بالسياط بقصر أبي الخصيصات إلى فارقت الروح الطاهرة الجسد، فاستشهد وارتقى لمقام عظيم.

لقد كان رحمه الله من العلماء الذين لا يقبلون الصمت والتفرج على الأحداث دون أن يقوموا بأي حركة أو اعتراض أو ينبهوا الحاكم إلى طريق الصواب، وذلك لا يستطيعه كل أحد.

ولحد الآن لا يُعرف مكان قبره  !

لقد أخفاه رجال السلطة حينما دفنوه  !

لكن، هاهي مؤلفاته تُنشر وتوَزع بالمشرق والمغرب، ولا تكاد تخلو مكتبة من كتاب من تأليفه، فمَن لم يكن سَمع باسمه فسيعرفه اليوم، ومن لم يعرف حكايته سيتعرف عليها الآن.

لقد نزل خبر موته حينها على المغاربة كالصاعقة، وبلغ مختلف المدن والأقطار..

قال ولده العلامة سيدي محمد الباقر الكتاني: ( لما بلغ خبر استشهاد المترجَم إلى الحجاز، اجتمع بالحرم المكي المقدس جمهور غفير من المسلمين على اختلاف ألسنتهم ومذاهبهم، وختموا القرآن الكريم عدة مرات، وأهدوا ثوابها لروحانيته الطاهرة )، كما صلوا عليه هناك في يوم الجمعة صلاة الغائب.. هكذا صنع المشارقة حين وصلهم الخبر،

ولاشك أن حُزن المغاربة كان عليه أكثر، وأثر موته عليهم كان أكبر..

وقد حصل بعد أن عَري السلطان عبد الحفيظ ـ الذي أمر بتعذيبه ـ مِن لباس الحُكم، وصار المولى يوسف مكانه، أنْ سعى للاجتماع في طنجة بالعارف الرباني الشيخ سيدي محمد بن الصديق الغماري، أوصاه بذلك الإمام سيدي محمد بن جعفر الكتاني، لكن السلطان ما وَجد إلا الصَّدّ ! فلم يَستقبله الشيخ ولا نزل عنده ولا فتح له باب بيته !! كل ذلك بسبب هذه الجريمة الفظيعة التي ارتكبها في حق هذا الإمام.

وإذا رأيتَ كيف يُستقبل اليوم مَن كانوا وُزراء وسُفراء في المنتديات واللقاءات والندوات.. بكل احترام وتقدير وإكبار.. علمتَ أن ما صنعه هذا الشيخ الجليل عليه الرحمة والرضوان مع هذا السلطان الذي كان يمتد حكمه إلى موريطانيا ومناطق شاسعة من الجزائر، لهو شيء غريب وعجيب  !

ومع أن الإمام الشهيد سيدي محمد بن عبد الكبير الكتاني لم يبلغ سن الأربعين، فقد خلّف ما يقارب ثلاثمائة كتاب ! وترك زوايا بمختلف مدن المغرب يُذكر فيها الله تعالى ويُقرأ فيها العلم..

وكان له مئات الآلاف من التلاميذ والمريدين بالمغرب والمشرق، بل قيل ان عدد مريديه بلغوا المليون !

ومَن اطلع على بعض رسائله التي طُبعتْ، علم أنَّ الرجل من شموس العلم والتقوى في ذلك الزمان.

وكانت له كرامات كثيرة، رآها الكثير من الناس، وسُجلت في الأذهان والدفاتر، هي دليل على صلاحه وصدقه وتقواه، ونتيجة حُسن اعتقاده واجتهاده في الذكر والدعوة والعبادة..

حدثني الشيخ الزاهد سيدي لَحْسن الدويلي رحمه الله تعالى بمنزله بالرباط، أنه حين زار مدينة الجديدة أول مرة، وكان ذلك منذ عقود، حدثه بعض أبناء الطريقة الكتانية، أنهم حين زارهم الشيخ سيدي عبد الحي الكتاني بعد وفاة هذا الإمام، سألوه أن يُريهم كرامة ! وذكروا له أنهم رأوا من شقيقه الأكبر شيخ الطريقة كرامات كثيرة، فأراهم هو أيضا البرهان..

الحق أنني أحب هذا الامام الشهم الهمام، وحين قرأتُ رسائله المطبوعة ـ وهي أول ما قرأت له ـ تعجبت مما فيها، وصار عندي معظما، ما دعاني إلى اقتناء العديد من مؤلفاته بعد ذلك، وسعدت أنها في مكتبتي..

وكتابه هذا لم يكتبه في بيته بين أهله وأولاده، بل كتبه في السفر  !

حتى وهو في السفر كان يشتغل بالتصنيف ! لم يكن يُضيع وقته  !

قال (ص 288): ( هكذا ظهر لي حالة الكتابة هاهنا في صحبة أهل الله، وكتبته ونحن في سفر). وقال (ص 112): ( هذا التأليف كله كتبناه ونحن في ضيافة السلطان عبد العزيز ابن السلطان حسن في سفر وزيره أبي العباس من آل موسى )، وقال (ص 362): ( ولم يحضرني لأنا في سفر الآن مع السلطان عبد العزيز ).

مواضيعه متنوعة، لخّصها الدكتور سيدي حمزة الكتاني في تقديمه له.

وفوائده كثيرة، وقد لخص لنا محققه الدكتور سيدي محمد إلياس المراكشي (في الصفحات: 45-47) مختلف القضايا الواردة في الكتاب: الفقيهة، والأصولية، والسلوكية الأخلاقية.

وقد استمتعتُ بحديثه عن حكم لبس الحرير، فقد أتى بنقول كثيرة في الموضوع، من الأحاديث النبوية، وأقوال أئمة المالكية، كالباجي وابن يونس، وابن رشد الذي يقول عنه (ص 170): ( ما أوسع دائرة حفظ الحافظ ابن رشد )، وابن العربي، والقاضي عياض، وابن الحاج، وابن غازي، والرهوني وغيرهم، وتتبع ما نَقلَه عنهم يحتاج لصبر..

وهو إذا حَدثك عن الروحانيات ومقامات القلوب فليس هو فيها بناقل، بل هو ممن ذاق وغاص وعَرف..

يقول (ص 296) بعد كلام: ( وقد ذقت هذا المقام ولله المنة ). ويقول (ص 91): ( علومنا بحسب ما نُلهم، لا لنا من أمرها شيء ).

ومما قاله في هذا الكتاب وسجلته عند قراءتي له:

(ص 94): ( إنْ كان سيدنا آدم مُعلِّم الملائكة، فهو صلى الله عليه وسلم معلم الجميع ).

(ص 94): ( مقامات الأنبياء لا ذوق لنا فيها ).

(ص 333): ( عادات العارفين عبادات، فما بالك بعبادتهم ).

(ص 333): ( نفس واحد من مخلص، أحسن من حركات كثيرة من مُراءأو مُعجَب بنفسه أو متكبر).  

(ص 340): ( تخليل العادات بالعبادات هو دأب الصالحين ).

رحم الله هذا الإمام ورضي عنه وعن كل علماء الإسلام.