مؤلفات المغاربة
في علم التراجم كثيرة، تختلف في أحجامها ومواضيعها، بحيث لو جُمعت لملأت خزانة
كبيرة !
فمنها التي تُترجم
لرجال قرن محدد، أو لأبناء منطقة ما ببلادنا العزيزة، أو لأصحاب وظائف معينة، أو لأتباع
طريقة صوفية، أو لأصحاب شيخ كبير عارف من أهل الحقيقة، أو تُعرّف بصنف من الناس
لهم عناية بعلم خاص..
وكلها مفيدة ممتعة،
يَفرح المغربي حين يُطالعها، ويَتيقن أن هذه البلاد مباركة، وأن تُربتها طيبة، وأنها
كما يقولون: تنبت الأولياء كما تنبت الأرض البقل.
ومن آخر المصنفات
في هذا الباب التي طبعت هذه السنة: كتاب "لواقح الأزهار الندية فيمن تولى
وأقبر من القضاة والعدول وغيرهما بهذه الحضرة الإدريسية"، ألفه العلامة العدل
النسابة الشيخ سيدي محمد بن عبد الكبير بن هاشم الكتاني، المتوفى بفاس سنة
1362هـ/1943م،
وهو كتاب يُطبع
لأول مرة، نشرته دار الرشاد الحديثة-الدار البيضاء، قدّم له الشيخ الدكتور المحقق سيدي
محمد حمزة بن علي الكتاني الذي أهداه لي جزاه الله خيرا، والذي يقول في أوله (ص 5)
أنّ ( هذا الكتاب يُعتبر عملا مفردا في التأريخ لقضاة وعدول مدينة فاس الإدريسية
)، وقال (ص 11) يُبشر عُشاق هذا النوع من التصانيف بأن ( للكتاب صنو آخر وهو قريب
الصدور بإذنه تعالى، وهو تحفة الانشراح والانبساط فيمن تولى خطتي القضاء والعدالة
بفاس العليا والسماط ).
وأما محققه فهو الأستاذ
الدكتور سيدي محمد العمراني، وقد سبق له أن حقق كتابا لوالد المؤلف، وهو المعنون
بـ "روض الأنفاس العالية في بعض الزوايا الفاسية"، نشرته دار
الأمان-الرباط سنة 1435هـ/2014م.
وقد اعتمد في
تحقيقه لكتاب "لواقح الأزهار" على كتب مطبوعة ومخطوطة، وعلى مجلات
ومصادر ومراجع عربية وأجنبية،
وكتب مقدمة له طويلة
في أزيد من 130 صفحة، تحدث فيها عن هذا التصنيف، وبيّن قيمته وأهميته.. وقال (ص
17) أن هذا الكتاب ( يُعد باكورة الآثار الفكرية المغربية المختصة بموضوع القضاء
والعدالة بالحضرة الفاسية )،
وخَصص الفصل الأول
من الدراسة للحديث عن عصر المؤلف، والثاني للتعريف بالكاتب، والثالث للحديث عن
تاريخ التأليف وبواعثه، وبعض المعطيات الواردة فيه، وتحدث عن العدالة حقيقتها
وفضلها وشروط ولايتها، ومصادر المؤلف التي اعتمدها في تدوين كتابه هذا، ومنهجه
فيه..
وله هوامش كثيرة على
الكتاب، عرّفنا فيها ببعض الأمكنة والمصنفات والأعلام الذين ذكرهم المصنف، وصحح
بعض الأوهام التي وقع فيها، وفيها توضيحات واستدراكات..
كما وضع للكتاب
فهارس مختلفة متنوعة، تساعد الباحث على الوصول للمعلومة في أقرب وقت.
وقد استمتعت
بقراءته، واستفدت مما فيه من معلومات وتراجم..
ففي أوله يَذكر
المُصنف سبب اهتمامه بالتصنيف في هذا الموضوع، ويُحدثنا عنه نفسه أنه كان (مولعا
بعد بلوغه بالتقييد منذ زمن بعيد، ملازما له في الأوقات، مستعدا له في سائر
اللحظات، حتى ملأ بذلك تقاييد رائقة وفوائد رائقة)، وقال أن والده كان يُشجعه كلما
رأى ما خطته يمينه، ويدعو الله له، وليت الآباء يصنعون مثل هذا مع أبنائهم
فيشجعونهم كلما رأوهم على عمل صالح نافع ويدعون الله لهم، فإن ذلك يؤثر كثيرا فيهم
ويرفع هممهم..
ثم أتى بنصوص عديدة لعلماء عن فضل علم التاريخ، وفضل العدالة، وأنها وظيفة دينية
تابعة لوظيفة القضاء،
وتحدّث عن العدول
ودكاكينهم، وأماكن تواجدها بفاس، وكيف أنه خالطهم، وأن والده كان يوجهه إليهم، فهو
يعرف أسماءهم ويصفهم ويذكر ملابسهم وكيف أن الناس كانت تحترمهم..
ثم شرع في التعريف
بقضاة مدينة فاس، من (ص 208) إلى (ص 280)، ووددت لو أنه أطال في ترجمتهم..
ثم ترجم للعدول
فيما تبقى من الكتاب، وتحدث عن بعض بيوتات فاس، وذكر التي انقرضت، وعن مقابر
اندثرت، وترجم لبعض أبناء تلك البيوت من العدول.. فوائد متنوعة جميلة.
ومن فوائد الكتاب:
أن القاضي إبراهيم التسولي التازي (ت 747هـ) لزم منزله بسبب المرض، فـ (كان ملك
وقته يقدم عنده ليزوره). وأن القاضي أحمد بن العجل الوزروالي (ت 856) (كان يختم
القرآن في كل أسبوع، وكان يعيد صلاته التي صلاها حين قاضيا)، وأن القاضي عبد الله
الهواري (ت 401) (كان زاهدا في الدنيا)، وأن القاضي الحسن الونشريسي (ت بعد 790)
خيّرته زوجته بالرجوع للقضاء أو ان يطلقها ! فرجع إليه، وأن
القاضي مفضل العذري (ت بعد 681) (هو أول من سن سنة بناء المدارس بحضرة فاس)، وأن
القاضي محمد ابن سودة (ت 1076) أوصى أن ينشد المارون بين يدي جنازته هذه الأبيات:
إلهي المالك
الناصر * أتاك عبدك القاصر
ببابك يسأل العفو
* عن ذنب ماله حاصر
أنظر تتمتها فيه.
وأن القاضي محمد
يعيش الرغاي الشاوي (ت 1150هـ) قتله اللصوص في بيته، وأن القاضي عبد القادر ابن
شقرون (ت 1219) حضر جنازته السلطان المولى سليمان، وأن القاضي أحمد ابن التاودي
ابن سودة (ت 1235هـ) عاده السلطان المولى سليمان ين مرض، وأن القاضي يوسف
البوعناني (ت 1206) (ولي القضاء بفاس وهو ابن عشرين سنة) !
وفي الفصل الذي
خصصه لترجمة العدول فوائد أخرى جميلة.