قرأته على مهل في عدة أيام، وكنتُ كلما طالعتُ ثلاث أو أربع صفحات منه أشعر بالارتواء، فأضعه إلى وقت آخر.
وكنتُُ كلما تقدمتُ في القراءة أتعجب من تلك المصطلحات التي تحمل معاني لطيفة سامية والمسبوكة بطريقة أنيقة عالية في صيغ تعبر عن مدى تعلق الشيخ محمد الباقر بالجناب النبوي الشريف، ومدى التعظيم الذي يحمله في قلبه لصاحب الرسالة الخاتمة، وتدل على عمق غوصه في بحر محبته عليه الصلاة والسلام إلى حد جد كبير..
يَذكر في القصيدة التي ختم بها الكتاب أنه ما ألفه إلا بإذنٍ، قال (ص:119):
قد صغتُه بلطافة وسكينة ** وهداية ونجابة المتكامل
قد صغتُه بسعادة ورزانة ** ومهابة ومحبة بعوامل
بالاذن جاء، فحزتُه وكتبته ** أرجو المعارف من عوارف شامل
ثم يوصينا بالنظر فيه، فيقول:
فانظر مليا في فتوح ثنائه ** أنصت مليا في كمال دلائل
أمعن به تحظ بكل معارف ** أسعد به ذخرا بخيرٍ حافل
واصرف له الأوقات تجلُ كمائما ** واصحبه في التذكير كل صائل
هو كنز هذا الدهر فتحٌ كامل ** هو تاج أعلام ومجدُ أماثل
باكورة هو في العقود وجوهرٌ ** متلألئ بضيائه المسترسل
الخير كله في بواطن طيه ** والفيض حاز جميعه بفضائل
من الصيغ العجيبة تلك التي ضمت أسماء لبعض مؤلفات والده وغيره من كبار السادة الصوفية (الصلاة رقم:7-8).
وأعجبتني هذه الصيغة:( اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد الذي رفعت ذِكر الأولياء بمحبته، وشرّفتهم بالاحتماء بجاهه، وعظمتهم بالانتماء إليه، وسوّدتهم بالانهماك في محبوبيته، وأنزلتهم المكان الرفيع بشغفهم له، وبوّاتهم مقاما عليا بعشقه وكمالاته، وأقعدتهم سنام المجد باتباعهم سبُل محجّته واقتفائهم طريق هدايته، فسادوا به طول الدوام، وبسطتَ ذكرهم على مر الشهور والأعوام، وسلكتَ بقلوبهم نحو الإلهامات اليقينية، ومنحتَ بصائرهم بمشاهدته يقظة ومناما، قعودا وقياما، في الحركات والسكنات، وآله وصحبه وسلم ).
من خلال سطور الكتاب تتبين لك عقيدة الشيخ، وتتيقن أنه من كبار العارفين المُحبين، وأنه ممن اجتبيَ وخصص بالفضل والخير العميم، ولا تستبعد ما أطلقه عليه المحقق الشيخ الدكتور سيدي حمزة الكتاني في ترجمته (ص:17) من ألقاب عالية، ومن أنه صرح ببلوغه درجة القطبانية في بعض أماكن من "البشائر الاهتدائية"، فالرجل كان من الكبار، وترجمته فخيمة، ولم نر من يقول فيه كلمة ناقصة، فكان عالما، محدثا، أديبا، فقيها، مؤرخا، صوفيا سنيا، داعية إلى الله، مربيا ،وطنيا، كريما..
وإن لم تُصدق فإن صورته تنبئك عن سماحته وصفاء قلبه وحسن طويته وجميل ظنه واتباعه للسنة، وصورته وهو كهل ترى فيها الوقار وعزّ العلم والسكينة..
فهو من مفاخر بلاد المغرب، ومن السادة الذين أوقع الله تعالى حبهم في قلبي منذ قرأت ترجمته أول مرة، وأظن أن هذا الكتاب هو ثالث كتاب طالعته له، وأرجو أن أطالع في المستقبل غيره.
وقد أهدانيه صاحب الأفضال على الطلبة والباحثين وغيرهم من أهل العلم، أحد فروع تلك الأصول الكريمة، الشيخ الشريف الدكتور سيدي حمزة الكتاني:
« إن الجِيَادَ على أعراقها تجري»
فله مني جزيل الشكر.
وأختم بما دعا به الشيخ محمد الباقر في إحدى صلواته (ص:80):(( .. اللهم بحقه عليك، وبمحبوبيته لديك، استغرقني في جماله، واستهلكني في كماله، واسقني من فتوحاته، واغمسني في انواره، وأوِْردني من عوارفه، وأنطقني بمعارفه، وامنحني الخوض في أبحره التي لا منتهى لها، واسبح بي في مناهل أنسِه الذاتي حتى يرتوي ظمأ قليبي، وتسقى جميع عوالمي ولهيبي، فأربح الربح الأبدي في الدارين، مع الصحو الكامل واليقين، بالقدم الراسخ والتمكين والجَنان، الثابت والخوض المتمكن في العرفان والرحمة والغفران..)).