الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

كتاب: "استجلاب الفيوضات من منشئ المخلوقات في الصلاة والسلام على دليل الخيرات وأنموذج الكمالات صلى الله عليه وسلم"



قرأته على مهل في عدة أيام، وكنتُ كلما طالعتُ ثلاث أو أربع صفحات منه أشعر بالارتواء، فأضعه إلى وقت آخر.
وكنتُُ كلما تقدمتُ في القراءة أتعجب من تلك المصطلحات التي تحمل معاني لطيفة سامية والمسبوكة بطريقة أنيقة عالية في صيغ تعبر عن مدى تعلق الشيخ محمد الباقر بالجناب النبوي الشريف، ومدى التعظيم الذي يحمله في قلبه لصاحب الرسالة الخاتمة، وتدل على عمق غوصه في بحر محبته عليه الصلاة والسلام إلى حد جد كبير..

يَذكر في القصيدة التي ختم بها الكتاب أنه ما ألفه إلا بإذنٍ، قال (ص:119):


قد صغتُه بلطافة وسكينة ** وهداية ونجابة المتكامل
قد صغتُه بسعادة ورزانة ** ومهابة ومحبة بعوامل
بالاذن جاء، فحزتُه وكتبته ** أرجو المعارف من عوارف شامل
ثم يوصينا بالنظر فيه، فيقول:
فانظر مليا في فتوح ثنائه ** أنصت مليا في كمال دلائل
أمعن به تحظ بكل معارف ** أسعد به ذخرا بخيرٍ حافل 
واصرف له الأوقات تجلُ كمائما ** واصحبه في التذكير كل صائل
هو كنز هذا الدهر فتحٌ كامل ** هو تاج أعلام ومجدُ أماثل
باكورة هو في العقود وجوهرٌ ** متلألئ بضيائه المسترسل
الخير كله في بواطن طيه ** والفيض حاز جميعه بفضائل
من الصيغ العجيبة تلك التي ضمت أسماء لبعض مؤلفات والده وغيره من كبار السادة الصوفية (الصلاة رقم:7-8).


وأعجبتني هذه الصيغة:( اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد الذي رفعت ذِكر الأولياء بمحبته، وشرّفتهم بالاحتماء بجاهه، وعظمتهم بالانتماء إليه، وسوّدتهم بالانهماك في محبوبيته، وأنزلتهم المكان الرفيع بشغفهم له، وبوّاتهم مقاما عليا بعشقه وكمالاته، وأقعدتهم سنام المجد باتباعهم سبُل محجّته واقتفائهم طريق هدايته، فسادوا به طول الدوام، وبسطتَ ذكرهم على مر الشهور والأعوام، وسلكتَ بقلوبهم نحو الإلهامات اليقينية، ومنحتَ بصائرهم بمشاهدته يقظة ومناما، قعودا وقياما، في الحركات والسكنات، وآله وصحبه وسلم ).

من خلال سطور الكتاب تتبين لك عقيدة الشيخ، وتتيقن أنه من كبار العارفين المُحبين، وأنه ممن اجتبيَ وخصص بالفضل والخير العميم، ولا تستبعد ما أطلقه عليه المحقق الشيخ الدكتور سيدي حمزة الكتاني في ترجمته (ص:17) من ألقاب عالية، ومن أنه صرح ببلوغه درجة القطبانية في بعض أماكن من "البشائر الاهتدائية"، فالرجل كان من الكبار، وترجمته فخيمة، ولم نر من يقول فيه كلمة ناقصة، فكان عالما، محدثا، أديبا، فقيها، مؤرخا، صوفيا سنيا، داعية إلى الله، مربيا ،وطنيا، كريما.. 
وإن لم تُصدق فإن صورته تنبئك عن سماحته وصفاء قلبه وحسن طويته وجميل ظنه واتباعه للسنة، وصورته وهو كهل ترى فيها الوقار وعزّ العلم والسكينة..
فهو من مفاخر بلاد المغرب، ومن السادة الذين أوقع الله تعالى حبهم في قلبي منذ قرأت ترجمته أول مرة، وأظن أن هذا الكتاب هو ثالث كتاب طالعته له، وأرجو أن أطالع في المستقبل غيره. 
وقد أهدانيه صاحب الأفضال على الطلبة والباحثين وغيرهم من أهل العلم، أحد فروع تلك الأصول الكريمة، الشيخ الشريف الدكتور سيدي حمزة الكتاني:
« إن الجِيَادَ على أعراقها تجري»
فله مني جزيل الشكر.


وأختم بما دعا به الشيخ محمد الباقر في إحدى صلواته (ص:80):(( .. اللهم بحقه عليك، وبمحبوبيته لديك، استغرقني في جماله، واستهلكني في كماله، واسقني من فتوحاته، واغمسني في انواره، وأوِْردني من عوارفه، وأنطقني بمعارفه، وامنحني الخوض في أبحره التي لا منتهى لها، واسبح بي في مناهل أنسِه الذاتي حتى يرتوي ظمأ قليبي، وتسقى جميع عوالمي ولهيبي، فأربح الربح الأبدي في الدارين، مع الصحو الكامل واليقين، بالقدم الراسخ والتمكين والجَنان، الثابت والخوض المتمكن في العرفان والرحمة والغفران..)).

الاثنين، 6 أكتوبر 2014

"محدث الشام العلامة السيد بدر الدين الحسني بأقلام تلامذته وعارفيه"





كان ـ من غير شك ـ من كبار أولياء الله تعالى الذين يعمرون أوقاتهم بالطاعة والذِّكر ودوام الحضور، فلم يكن للشيطان في مجالسه نصيب، وقد بايعه الشيخ المفتي سيدي محمد العربي العزوزي على الولاية لرؤيا رآها، وليته لنا حكاها ورواها، قال:« .. فناولني يده للمبايعة، ومكنني مِن تقبيلها، ولا أعلم أنه مكّن أحدا مِنْ تقبيل يده رحمه الله ».



نعَمْ، إن تقبيل يدِ مثله لشرف عظيم يُفتخَر به ويُسطَّر بمداد الاعتزاز في الكتبْ، فإنه ـ نَوّر الله مَرْقده ـ لمن نفحات الدهر العزيزة، تعْلمُ ذلك وتتيقنه حين تقرأ ما وصفه به الناعتون الذين خالطوه وعرفوه منَ الأوصاف السامية، وما أطلقوه عليه من الألقاب العالية. 

فمِن قائل إنه:« أستاذ الجميع »، ومِن مُخبر أنه:« قطب الزمان ومجدّد الأوان »، وأنه:« لم يُوجد له نظير منذ خمسمائة سنة »، وقد كان ـ حسب قول الشيخ عبد الحي الكتاني ـ:« أمّة وحده، كالبحر الطام الغطمطم الذي لا قعر له »، وكان كما قال الشيخ محمد علي ظبيان:« العلامة الأكبر، خاتمة المحدثين، ونابغة العصر»، وهو عند مفتي الديار المصرية الشيخ بخيت المطيعي:« بقية السلف الصالح » الذي « كان اسمه بدراً سطع في سماء الشرق، فاهتدى به الناس جميعا »، وهذا بعض وصفهم، لا كله.



لقد كان هذا السيد الجليل منارة يقصدها من يُحب أن ينظر بأم عينه كيف تتشكل الفضائل وتتجلى وتسطع في شخص فرد واحد، وإنك لترى كل من لقيه يعدّ يوم لقاءه به من غرر الأيام التي مرت عليه طوال عمره، وقد يحكي لك ما جرى له معه، وما دار بينهما، وما شاهده منه، بتفصيل دقيق يتذكره كأنه حصل ليلة البارحة، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يعلمون قيمة المنظور إليه، وأن لحظات مجالستهم له لا تُقدّر بمال. 


وكما اشتهر بالتبحر في العلوم، اشتهر أيضا بالورع، والتواضع، بل كان كلمة إجماع في كمال أخلاقه وحُسن فعاله، وـ يا للعجب ـ لم تُسجل عليه مع كثرة مَجالِسه ومخالطته للناس ـ فترة حياته ـ ولو هفوة واحدة ! ولولا أننا قرأنا ما حكاه العلامة القاضي محمد علي ظبيان في مقالته عنه، عن بعض العلماء، أن الشيخ بدر الدين رأى في منامه النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الطلب تفلَ في فمه، لتوقفنا في التصديق فيما رواه لنا الرواة عنه، إذ لم نقرأ مثله إلا عند أئمة التابعين، لكن ليس ببعيد أن يكون الخبر صِدقا والنبأ صحيحا إذا المخبََر عنه رأى مثل هذه الرؤيا العظيمة المباركة.

لقد عظّم الله قدْره في القلوب، فهابته، وأحبته، وأقبلتْ عليه، وانجذبت منقادة ـ بسلاسة ـ إليه، ليس فقط من بلاد الشام، بل من جميع أقطار بلاد الإسلام، وقد نظرتُ في المغاربة الذين حضروا دروسه أو أجيزوا منه فأحصيتُ عددا منهم، وهاك أسمائهم :
أبي شعيب الدكالي (تدبج معه)، احمد التبر بن أبي بكر الفاسي، احمد بن الصديق الغماري، عبد الله بن الصديق الغماري، عبد العزيز بن الصديق الغماري، احمد بن المامون البلغيثي، احمد بن محمد الزبدي الرباطي، احمد بن محمد العمراني، احمد سكيرج، جمال بن احمد الهواري المغربي، العابد بن عبد الله الفاسي، العباس بن ابراهيم، عبد الحفيظ الفاسي، عبد الرحمن الدكالي، عبد الرحمن بن زيدان، علي بن محمد عواد السلوي، الغازي بن محمد سباطة، محمد الطيب بن محمد المراكشي، عثمان جُورْيُو، محمد بن جعفر الكتاني الذي قال: استجزناه لنا ولأولادنا، محمد المكي الكتاني، محمد الناصر الكتاني (ت 1974)، محمد المنتصر بالله الكتاني، محمد الطيب بن محمد المهدي الكتاني، عبد الرحمن بن عبد الحي الكتاني، محمد الفقيه ابن عائشة الحداوي، محمد بن أبي بكر القادري،  الحاج أحمد معينينو السلوي، عبد الله ابن محمد بن عبد السلام ابن سودة (1)، محمد بن احمد بن عبد الله، محمد بن ادريس القادري الفاسي الجديدي، محمد بن اليمني الناصري،  وحضر الشيخ عبد الحي الكتاني درسه بالجامع الأموي، ولم يستجزه، كما حضر الشيخ العارف فتح الله البناني مجلس درسه لصحيح البخاري وأثنى عليه، والشيخ محمد الحبيب الفيلالي.
هذا ما عثرت عليه مِمّا لدي من مراجع قليلة. أما من أخذ عنه من غير أبناء بلاد المغرب الأقصى فلا يعد ولا يُحصى.

كان آخر ما أقرأهُ من الكتب ـ حسب قول الشيخ عبد الرحمن بن أبي شعيب الدكالي ـ كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، ثم انتقل إلى ديار الآخرة، والكل يرجو لو طال به العمر ومُدّ في أجله.

ليس يغيبُ عني اسم "بدر الدين الحسني المغربي"، فإن اسمه مما تُصادفه في كثير من أثبات وفهارس المتأخرين، لكن الكتاب المعنون بـ: "محدث الشام العلامة السيد بدر الدين الحسني بأقلام تلامذته وعارفيه"، والذي اعتني بجمعه وترتيبه ـ جزاه الله خيرا ـ الشيخ العلامة النسابة سيدي محمد بن عبد الله آل رشيد، يُعد أكبرَ ما قرأتُ عنه، وهو يضم مقالات تلامذة هذا الإمام الرباني الهمام التي كتبوها عنه، فنشرت في الجرائد أو المجلات، كما فيه قصائد لهم نظموها في مدحه ورثائه مما جادت به قرائحهم الأدبية ومما فاضت به قلوبهم الممتلئة حبا له، وغير ذلك من الفوائد، فمنْ يُطالعه يزداد تعظيما لهذا العالم الجليل ومحبة له، وإننا لنتقرب إلى الله تعالى بمحبة الصالحين والعلماء العاملين، ونجعلها من أفضل أعمالنا التي نرجو بها النجاة يوم العرض على رب العالمين.

كما إنه ليُشرّفنا كمغاربة أن يكون الشيخ بدر الدين الحسني أصله منَ المغرب، وأنّ والده العالم المسند من مراكش، وإن كنا نعجب كيف فات الشيخ القاضي العباس بن ابراهيم تقييد اسمه ضمن من ترجم لهم في "الإعلام"، مع أنه لقي ولده الشيخ بدر الدين وأخذ عنه، فهو يدري أصله الذي يشتهر به !
ولا أدري هل استدرك اسمه الأستاذ أحمد متفكر في مستدركه عليه أم لا ! 

لقد استقر في دمشق غير واحد من العلماء المغاربة منهم: شيخ الإسلام الإمام سيدي محمد بن جعفر الكتاني الذي هاجر إليها بأسرته، ومنهم الشيخ العلامة سيدي يوسف بن بدر الدين الحسني المراكشي وغيرهما، ووجدوا فيها راحتهم، ولقوا من أهلها كل خير، فطبيعتها خلابة، وأناسها أهل فضل، والبركة تسري في أرجائها، فنسأل الله ـ بهذه المناسبة ـ لأهل تلك البلاد الفرج والخروج من كل ضيق، والنصر على الطغاة الظالمين الذين استعلوا بغير حق وأضروا بالمسلمين، في أقرب الآجال، آمين آمين آمين.
---------------
(1) القاضي عبد الله ابن سودة، توفي رحمه الله سنة 1392هـ. ترجمته في "قبيلة زعير قديما وحديثا" (2/290).