الرجل كان قمة في العلم، قمة في الأخلاق، زيّن الله به بلاد الشام، وفخِرت به عن غيرها من البلدان.
تجد في كتاب "محدث الشام العلامة السيد بدر
الدين الحسني" لمؤلفه الشيخ المسند النسابة سيدي محمد بن عبد الله آل رشيد،
الذي جمع فيه مقالات تلامذة هذا الإمام عنه بعد وفاته، وهي مقالات كلها تفيض محبة
واعترافا بفضائله وشمائله ومزاياه، وفيه أيضا كلمات وقصائد في مدحه، وأخرى في رثائه ترى فيها تأوهات على فقده وحزن وأنين، وعلى فقد مِثله
يحق البكاء.
استوقفتني في سيرته العديد من الصور، منها:
أنه كان يأمر بالحقّ، ويدعو لجهاد المستعمر الفرنسي ولم يكن منَ القاعدين.
وأنه كان يشفع للضعفاء لدى رجال السلطة، ويُشفق على المَسجونين، فيدخل السجون ليَعِظهم و يَدُلهم على الطريق الهادية والسبيل القويم.
وأنه ـ مع ما وصل إليه مِن عِلْمٍ وشُهرة ـ كان منْ كبار المتواضعين، فلم يكن يرى نفسه فوق أحدٍ منَ المسلمين، حتى العُصاة مِنهم كان يَراهم بعيْن التعظيم، ومِن أغرب حِكاياته، ما ذكره تلميذه الأستاذ المفكر الداعية محمد المبارك رحمه الله في مقالته عنه (ص 146)، قال:« من أغرب ما سمعتُ مِن تصرّفه وطرائق إصلاحه، حادثة عجيبة سمعتها ممّن وقعت له مع الشيخ رحمه الله، ذلك أنه استدعى أحد أصحابه وهو الذي حدثني بالقصة، وكان شيخا في نحو الستين من عمره، ذا لحية كبيرة، وعمامة من هذه العمائم التي يتخذها عامة الناس من أهل الشام من التجار وأهل الحِرف، ثم قال له: تذهب إلى محَل البِغاء، وتسألُ عن الكبيرة التي تدير شؤون البغايا، وتعطيها هذه الدنانير الذهبية العشرة، وتقول لها: إن الشيخ يطلب منكِ أن تأمري مَن عندكِ مِن البنات أن يغتسلن، ثم تعطي كل واحدةٍ منهن دينارا ذهبيا، وتطلبي إليها أن تدعو للشيخ. فحارَ الرجل في أمره كيف يذهب بهيئته هذه إلى مثل هذا المحل، ثم لم يجد مَناصا بعد أن أمره الشيخ مِنْ تنفيذ ما أمره به.
قال لي: وقد نفذتُ ما قال لي، ولم أخرجْ حتى سمعتُ بكاءهن ونحيبهنّ، ولاشك أن أكثرهن وربما كلهنّ قد تُبنَ ممّا كنّ فيه وغيّرن حياتهن وعُدنَ إلى الحياة الشريفة المستقيمة» انتهت الحكاية.
ذكّرتني هاته الحكاية بما كنتُ قرأته ـ إن لم تخني الذاكرة ـ في "الطبقات الكبرى" للإمام الشعراني، في ترجمة بعض الأولياء، أنه كان يمضي إلى دور البغايا اللواتي هرمن وكبرن في السّن، ولم يُعد يأبه بهن ولهن أحد، فيعتني بتمريض مَن كانت منهن مريضة، ويساعد على تحسين حالتهن المعيشية.. وكنتُ حينها استغربتُ هذا الخلق العجيب، الذي زاد مِن تقديري للسادة الصوفية ومنْ مَحبتي لهم.
فما أعظم تلك القلوب اللطيفة الشفيقة التي امتلأتْ رحمة وعطفا على الخَلق: العُصاة منهم والطائع، وصلى الله وسلم على سيد الخلق وشفيع الأنام يوم الزحام الذي بعث رحمة للعالمين والقائل:« الراحمون يرحمهُم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ».
ولم تكن شفقة الشيخ على المسلمين فقط، بل شملت عطفته أيضا غيرهم من أهل الملل الأخرى.
يذكر الأستاذ محمد المبارك في نفس المقال (ص 141)، قال رحمه الله:« كان الشيخ يتفقد أحيانا بعض أصدقائه ومعارفه القدامى ممن لا يَعرف الناس صلته بهم، أو بعض أرحامه، وأكثر ما يزور من الناس البُسطاء، وقد يزور غيرهم. كما كان يتفقد بزياراته بعض أهل الملل الأخرى، وقد اشتهرتْ زيارته لحيّ النصارى في أيام الثورة، في وقتٍ شاعتْ فيه شائعة خبيثة روّجها دُعاة السّوء وأبواق الفرنسيين، وهي أن الثوار يريدون الاعتداء على الحيّ، فكان لزيارته معنى رائع عظيم، وهو التضامن بين المسلمين والمسيحيين في محاربة الفرنسيين المستعمرين ».
فلا يستغرب المرء حينما يقرأ في تراجم بعض الصالحين وبعض العلماء الحلماء العاملين، أنه حضر جنازتهم إضافة إلى المسلمين: اليهود والنصارى، فإن الرّحماء تُحبهم جميع القلوب.
وعلى قدر الرحمة في القلب، تكون الشجاعة.
فرحمة الله على الإمام بدر الدين الحسني، العالم، الرباني، العاقل، الشفيق، الشجاع، زينة بلاد الشام.