وأنا أطالع في عنوان "طريق الهدى" من مجلة "الفيصل"، (العدد 185، ص 58، الصادر سنة 1412/1992)، حيث يُجيب فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن سعد اللحيدان عن أسئلة قُراء المجلة، كان أول سُؤال في تلك الصفحة هو: هلْ صَحّ هذا الحديث: ما بين قبري ومنبري رَوضة من رياض الجنة ؟
فرأيته أجاب قائلا: « هذا الحديث بهذا النص وَضعه القُبُوريون، وتواتر لديهم جدا، وجعلوه سبيلا لهم إلى عبادة القبور ...»،
إلى أن قال: « فالقوم هنا يُبدلون
"حُجرتي" فيقولون: "ما بين قبري"، فجمعوا بين الكَذب والبهتان
وبين الدعوة إلى الكفر وعبادة غير الله معه، ولعل أهل الديانات غير السلامية
يضحكون من هؤلاء الذين يتسمون بالمسلمين وهم يعبدون القبور وأصحاب القبور مع الله،
وهم يقولون بلسان الحال كفانا الشيطان والجهل تضليل هؤلاء حتى كفروا حيث جهلوا لا
إله إلا الله محمد رسول الله وما تقتضيه من لوازم التوحيد » !!
وصدور هذا الكلام من هذا الدكتور شيء عجيب
!
فالحديث رواه أئمة الحديث الشريف الكبار في مصنفاتهم
!
فرواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط (1/192، ح 610)، قال: « نا أبو حصين الرازي قال: نا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن
نافع عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم به. ثم قال: لم يرو هذا
الحديث عن ابن خثيم إلا يحيى، تفرد به حصين ».
وذكره في موضع آخر من نفس الكتاب (1/223، ح 733).
فهل يُعد الإمام الطبراني من القبوريين ؟
وماذا يقول عن الإمام سراج الدين ابن الملقن الذي قال في كتابه "حدائق
الأولياء" (2/153): «وصَحَّ: ما بين قبري
ومنبري...الحديث» ؟
فهل هو أيضا ممن يدعو لعبادة القبور حين صحح هذا الحديث ؟
ثم ماذا سيقول عن الإمام البخاري الذي روى الحديث في صحيحه لكن بلفظ: ( ما بين
بيتي ومنبري..إلخ) غير أنه بَوب عليه: ( باب فضل ما بين القبر والمنبر ) ؟
ورواه الإمام مُسلم في صحيحه أيضا بلفظ: ( ما بين قبري ومنبري..) في كتاب
الحج، وبوب عليه: ( باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة ).
فلمَ استعملا في التبويب كلمة: ( قبري ) عوض: ( بيتي )؟
لاشك أنهما أيضا من القبوريين الذين يدْعون للقبورية ؟!
بل قال العلامة المحدث سيدي عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله في "إعلام الراكع": « وجاء في صحيح البخاري بلفظ قبري في رواية ابن عساكر، ورواه جماعة بلفظ قبري أيضا ». فذكر منهم: البزار، وهو في "مسنده" (15/20، ح 8220)، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق، وأبو النعيم في الحلية، وغيرهم.
فما شَتت الأُمّة، وزاد في افتراقها، إلا مسارعة بعض الناس ـ رغم ما لهم من علم ـ إلى تكفير المسلمين، أو اتهامهم بالبدعة، عند الاختلاف معهم!
وما أحوج العالِم إلى التؤدة، وما أحوج الأمة إلى علماء فقهاء رحماء يحرصون على وحدة الجماعة، واجتماع الكلمة، وصفاء القلوب.