السبت، 21 سبتمبر 2013

العارف الكبير سيدي أحمد بن عاشر رحمه الله


(كتبتها يوم الأربعاء 14 دجنبر 2011 م، الموافق ل 18 محرم 1433 هـ)

ذاك اليوم سعيتُ لمعرفة مَحَلّ ضريح العارف الشهير والوليّ الكبير سيدي أحمد بن عاشر أنارَ الله مرقده.
قصدتُ مدينة سلا حيث يذكر المؤرخون أنه رحمه الله توفي فيها وبها يتواجد ضريحه المقصود للتوسل والزيارة. 
هذه المدينة القديمة المباركة، قال عنها العلامة ابن قنفذ القسنطيني رحمه الله في كتابه "أنس الفقير وعز الحقير" أنها « مقرّ الصّالحين » وأنها « أولى بالمريد بالمغرب من غيرها ». والتي مدحها العلامة ابن الخطيب في "معيار الإختيار"- كما نقله العلامة محمد بن علي دنية الرباطي في "مجالس الإنبساط" (صفحة:66)- فقال:« هي العقيلة المفضلة، والبطيحة المحصلة، والقاعدة الموصلة، والسورة المفصلة، ذات الوسامة والنضارة، والجامعة بين البداوة والحضارة، معدن القطن والكتان والمدرسة والمارستان، والزاوية كأنها بستان، والوادي المتعدد الأجفان، والقطر الأمين عند الرجفان، والعصير العظيم الشان، والأسواق السارة حتى برقيق الحبشان، اكتنفها المسرح والخصب الذي لا يبرح. ثم قال في مدحها أيضاً: وهي على الجملة من غيرها أوفق، ومغارمها لاحترام الملوك الكرام أرفق، ومقبرتها المنضدة عجيبة في الانتظام، معدودة في المرافق العظام، ويتأتى بها للعبادة الخلوة، وتوجد عندها للهموم سلوة ».. إلخ.
وقال عنها العلامة محمد بن علي دنية الرباطي بعد هذا الكلام وغيره فقال فيها كلمة الختام:« هي من الثغور المباركة، والأمكنة المشرفة، التي يجتمع فيها الأخيار ».
وتجد في ثنايا بعض المؤلفات تشوق إليها وأبيات شعر فيها وحنين وزفرات إلى لقاء أناسها وأعلامها.. 

قلت: تلك أوصافها في ذاك الزمان، أما اليوم فهي محط الإهمال، شملها التهميش، وأشرقت عليها شمس الإجرام.. فصارت محط رحال اللئام، إلا نزراً يسيراً من الرجال، ممن أراد الله تعالى بهم نفع الأمة وصلاح العباد، فحيث تشتد الظلمة يكونون، يقتلعون الناس من بين أنياب الشيطان، فلله درّهم، نسأله تعالى أن يحفظهم .

لم أكن أدري من أين أبدأ البحث، فيمّمت الوجهة نحو "المسجد الأعظم". 
هناك، مددت بصري وتفحصت المكان، لا علامة تهدي أو لا فتة تُرشد. 
وبينما أنا في حيرتي إذ بشيخٍ هَرِم يَجرّ الخطى يمرّ من أمامي، استوقفته سائلا: السلام عليكم، سيّدي، هل تعلم مكان ضريح العارف سيدي احمد بن عاشر ؟ 
فنظر إليّ ملياً، وفحصني بنظره، ثم سأل: من أين أنت ؟ 
فأدهشني سؤاله وأنا الذي كنت أنتظر الإجابة! 
فأخبرته أنني من الجارة: العاصمة الرباط. 
ثم سأل مرة أخرى: في أي جُزءٍ منها ؟ 
فزاد استغرابي إذ لم يظهرْ لي المغزى من سؤاله، فبينما أنا أبحث عمّن يدلني ويخرجني من حيرتي إذا بها تزداد ! ومع ذلك لم يكن لي من بد سوى الإذعان وإمداده بالإجابة، فالرجل شيخ كبير، وقد أُمِرنا من المعصوم صلى الله عليه وسلم بتوقير أمثاله، ومعرفة حقهم، وحُسن رعايتهم، وكمال الأدب معهم، وعدم الاستخفاف بهم..
وهنا نطقَ الشيخ مُستهجناً مستغرباً:" أنت تسكنُ مدينة الرباط، ولا تعرف حتّى أين يوجد ضريح سيدي احمد بن عاشر" ؟!! 
فارتفع حينذاك حجاب دهشتي، وعلمتُ أن من وراء الأسئلة مقصد، وأن الرجل ليس ممن أصاب الزمن عقولهم بمُصاب، بل عاقلٌ أراد توجيه رسالة وإيقاظ وسنان..
فخجلتُ من نفسي، واستحييتُ من جهلي، ولانت له مسامعي.. 


ولعلّ الشيخ قاسني بنفسه حين كان في مثل سنّي، حين كان الناس لا يزالون على فطرتهم الصافية، ونياتهم النقية، وأخلاقهم البسيطة، فكانوا يعظمون الأولياء ويلتمسون بركاتهم، فيقصدون أضرحتهم للدعاء هناك، طمعاً في الإجابة بقرب أجداث أولئك السادة، حيث أرواحهم ترفرف خفاقة وتملأ الأجواء نسمات رقراقة.. 
وكأن الشيخ توقف به الزمن في أبعينيات القرن الماضي، حين كان في سن العاشرة أو العشرين من عمره- كذا قدّرت-، وكان اسم الولي سيدي احمد بن عاشر حينذاك يملأ ذكره سماء العدوتين، فلا تجد رجلا أو امرأة إلا وهو عالم بفضله ينحني إجلالا عند ذكر اسمه، متوسلا به عند المصائب، راجياً به تحقيق كثير من الرغائب.. 
فانقلب الزمان عما كان، وتعثرت العقول في عقال الجهل والضلال، وصارت الشمس يُسأل عنها في رابعة النهار..
وصدق الرجل، أوَيُجهلُ ضريح مثل هذا الجهبذ ؟! 
أوليس هذا هو الذي حلاّه الإمام محمد بن جعفر الكتاني في "سلوة الأنفاس" (2/313) على أنه:« الشيخ الكبير، الولي الصالح الشهير، الورع الزاهد، المنقبض العابد، الحاج الأبرّ الناسك، المسلك السالك أبو العباس سيدي أحمد..». ووصفه فقال:« كان رحمه الله سباقاً للخير، منقطع القرين في الزهد، شديد المراقبة، عالي الهمة والشرف، جليل المقام، ذاكراً لعلم الحلال والحرام، متمكناً من مقام الورع، لا يشق فيه غباره، ولا تجهل آثاره، وكانت له كرامات ظاهرة، وأحوال عجيبة باهرة، ومناقبه كثيرة ». 
أوليس هذا هو الذي أثنى عليه العلامة ابن قنفذ رحمه الله في "أنس الفقير وعز الحقير"(صفحة:7) فقال:« ولي الله تعالى على التحقيق، وهو الشيخ الحاج الزاهد الورع الصالح أبو العباس أحمد ». 
أوليس هذا الذي جعله العلامة محمد بن أبي بكر الحضرمي في صدر كتابه "السلسل العذب"، وأثنى عليه بقوله:« بدأت في الطبقة الأولى بمتبع الورع، أهدي الاتباع، السائر في طرق الاجتهاد بالباع المديد والخطو الوَساع، المؤثر للخلوة والانقطاع، الملتئمة على تفضيله عقائد الإطباق والإجماع، القاطع علائق الدنيا جملة وتفصيلا، فلم يدع بينها وبينه لما أعد للضروريات سبيلا، الشيخ الجامع أبي العباس ». 
أوليس هذا الذي ترجم له أحمد بن القاضي المكناسي في "جذوة الاقتباس"(1/153) وكان مما وصفه به أنه:« منقطع القين في الزهد، وله كرامات ظاهرة ». 
أوليس هذا الذي ترجم له العلامة محمد بن محمد مخلوف في "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية"(صفحة:233 رقم:838) فقال:« الشيخ الصالح، أحد العلماء الأخيار، من رجال الكمال، والأولياء الأبدال، مشهور بإجابة الدعوة، معروف بالكرامات، جمع بين العلم والعمل. قال ابن عرفة: ما أدركت مبرزاً في زماننا إلا الشيخ أبا الحسن المنتصر، وأحمد بن عاشر ». 
لأجل كل هذا الثناء وهذه الصفات العوالي وغيرها.. عدّه الشيخ المحدث عبد الله التليدي في كتابه "المطرب" من مشاهير أولياء المغرب، وحُقّ له ذلك.
فالجهل بمثل هذا السيد عيبٌ شنيع، ونقص قبيح، خاصة لمن يقطن مدينة سلا أو جارتها العاصمة الرباط. فكان لاستغراب ذاك الشيخ من جهل شباب زماننا- الذي أمثله في ناظره- بمكان تواجد ضريحه، نصيب من الصواب يستحق الزجر والعتاب.
أما أن تقول له انك تجهل من يكون؛ فلعل تلك تكون القاضية في حقه.
٭٭٭
ثم إن الشيخ، أمسك بيدي وعزم على إرشادي لمقصودي، فسار بي عدّة خطوات وحادثني بكلمات، وكان مما قال بعد أن أشار إلى حيث يظهر الضريح من بعيد:«  الناس يعظمون أصحابَ القباب، ولعل في الأحياء من هم أعلى درجة منهم أو مثلهم ».
والأمر كما قال صحيح، ولستُ أظنه سعى للتنقيص، بل هو حكاية للواقع. 
ثم وقفَ، وقال متحدثاً عن نفسه:« فأنا مثلا، أواصل عدة أيام لا أفطر، فإن لم يطعموني لا أسألهم" ثم أضاف:"وفي بعض الأحيان يلوح لي في المنام رجلا منوراً يقف عليّ..»، وهنا صمت الشيخ عن الاسترسال في الكلام، والتفت إليّ بكليته وقال:« ومن يقول لي، فقد تكون أنت الماثل أمامي لست شخصاً عادياً، بل قد تكون ولياً من أولياء الله؟! ».
وهنا انتزع الشيخ مني ابتسامة جَهدتُ كثيراً كي أخفيها حياءاً منه وتعظيماً لشيبته أن يظن مني سوء الأدب، لكن عبثاً حاولت.. إذ أبتْ إلا الظهور، فبرزتْ صغيرة مستحيية، وقلتُ لنفسي:" نعم، صدق الشيخ، من يدري..".
٭٭٭
استأنفنا السير، إلى أن أوقفني أكرمه الله أمام باب الضريح، فدخلتُ، وبقي هو في الخارج، فقدّمت الرجل اليمنى بعد البسملة، ونظرت، وسلمت تسليم التحية، ثم خرجت. 
ولولا أن المكان كان فيه جمع من النساء.. لمكثت بضع دقائق أستأنس فيها بالمكان وساكنه، وأنتقل فيه بالزمان إلى تلك القرون حيث كانت جلسات الفقه وشرح كتاب "الإحياء" يلقيها الشيخ ابن عاشر يتحلق حوله في مجلسه أمثال الإمام العارف بان عباد شارح "الحكم" وغيره من الرجال الفخام الذي جمعوا بين العلم والولاية وصاروا منارة يُهتدى بها وأئمة يقتدى بهم... 
لكن منعني الحياء، والحياء كما قال صلى الله عليه وآله وسلم " خير كله".

وعند الخروج، وجدت الشيخ وافقاً أمام بائع للحلوي، وهو يأكل منها، وفي يده مثلها، ولعل مشيتي معه ومحادثتي له فتحت له الشهية، ومن كان في مثل سنه رُخّض له في عدم صوم الفريضة إن كان الصيام يضره، فكيف بالنفل.
ثم أخذ بيدي حتى دلني على مكان ركوب سيارات الأجرة التي تنقل إلى الضفة الأخرى حيث العاصمة، فودعته شاكراً له ما أسدى إلي من معروف، وما تكرم به من الرفق في الدلالة، والأنس عند المرافقة.
وكان ذلك آخر العهد به.
فإن كان الشيخ لا يزال حياً فهذه أخلاق الشيوخ مع الصغار.
وإن كان انتقل إلى الدار الآخرة فرحمة الله عليه وأنار مرقده.
وآخر الكلام، هذه السطور ليست دعوة إلى زيارة الأضرحة، وإن كان هذا شيء مشروع، لكنها دعوة إلى النظر في التاريخ ومعرفة الثرات وإحياء ذكرى الجدود.
والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق