من رجالات مراكش الكبار، الذين تميزوا بمميزات متعددة،
وكانت جهودهم عظيمة في نفع المسلمين والدفاع عنهم: الأمير المرابطي، المُحدث،
المجاهد، مَيمون بن ياسين.
كان هذا السيد الجليل من رؤساء قومه، ومن رجال الحاكم
العادل الزاهد المجاهد يوسف بن تاشفين.
كان شُجاعا مقداما، لذلك نال احترام وتقدير سُلطانه،
وصارت له مكانة خاصة عنده، وقد جاهد معه في حياته، ودافع عن الدولة المرابطية بعد
وفاته.
عاش في فترة أفتى فيها العديد من الفقهاء بسقوط الحَج عن
المغاربة والأندلسيين، لبُعد المسافة، والمشقة الكبيرة، ولما يتعرضون له ـ في
الطريق ـ من الأذى والمخاطر الجسيمة.. وكان هو من القِلة الذين حَجُّوا في ذلك
الزمان وزاروا نبيهم صلى الله عليه وسلم، كان ذلك في سنة 497هـ.
ومن فضائله، أنه اهتم بطلب العلم، واعتنى خاصة بحديث
النبي عليه الصلاة والسلام،
فأخذ عن جماعة من شيوخ غرناطة،
وقرأ الحديث في المشرق على إمام الحرمين المحدث الفقيه
الحسين بن علي الطبري الشافعي، سمع عليه صحيح مسلم.
كما روى عن أبي عبد الله محمد بن أحمد المروي، وهو أندلسي،
كان مجاورا بالبلد الحرام، أخذ عنه اختصاره لتفسير الطبري.
وبمكة ـ أيضا ـ أخذ عن محمد بن الفرج الدربندي، وتناول
منه تحفة الأحباب في شرح الشهاب.
كما سمع صحيح البخاري على الشيخ العالم عيسى ابن الحافظ
أبي ذر الهروي، أرسل إليه يستقدمه مِنْ محل سكناه، فأكرمه لقاء انتقاله إليه،
واشترى منه نسخة والده من صحيح البخاري بمال جزيل وذَهب كثير، فسمعه عليه في عدة
أشهر.
قال الدكتور محمد بنشريفة رحمه الله في كتابه عن هذا
الأمير المرابطي (ص 56): ( وقد تَحدَّث عن سماع ميمون بن ياسين من أبي مكتوم أيضا
الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء، وإنْ كان لم يَذكر اسمه، قال في ترجمة أبي ذر
الهروي..).
قلت: لو أنه رجع إلى ترجمة عيسى بن أبي ذر التي في
المجلد 19 من السير، لوجده ذكر اسمه، فقد قال وهو يُعدد من روى عنه: ( وميمون بن
ياسين المرابط، وابتاع منه صحيح البخاري أصل أبيه).
وهذه النسخة من الصحيح نفيسة جدا، فهي بخط الحافظ
الهروي، قرأها على: المستملي، والكشميهني، والحموي، وسمعها عليه الكثير من أهل
المشرق والمغرب، وهي من أتقن روايات الصحيح، فانتقالها من المشرق للمغرب يُعد ـ في
تلك الفترة ـ حدثا علميا كبيرا يستحق أن يقام لأجله الاحتفال.
وكما كان ميمون بن ياسين يهتم بسماع الحديث الشريف على
شيوخه، فقد أسمعه هو أيضا لغيره،
فكانت له مجالس حديثية بعد عودته من الحج بمراكش،
وبتاسغيموت، وإشبيلية بالأندلس، فأخذ عنه فيها الكثير من الأعلام، منهم: الحافظ
ابن بشكوال صاحب كتاب الصِّلة، وابن خير صاحب الفهرسة، وغيرهما.
ومن مميزاته أيضا، أنه كان يهتم بحيازة الكتب العلمية
المهمة، وقد دفع الذهب الكثير لشراء نسخة الصحيح التي بخط الحافظ أبي ذر الهروي،
وكانت في سبعة أجزاء، كما كانت لديه نسخة من كتاب إحياء علوم الدين، ومن صحيح مسلم..
وبعد حياة حافلة بالأعمال الجليلة، توفي هذا المُحَدِّث
المجاهد الكبير ميمون بن ياسين بمدينة اشبيلية سنة 530هـ، ونُقل جثمانه لمراكش
الحمراء حيث دُفن، وضريحه يُعرف عند أهل مراكش بضريح سيدي ميمون، وهو غير بعيد عن ضريح
سلطان المسلمين يوسف بن تاشفين.
وقد ألف الدكتور محمد بنشريفة حول سيرته وحياته كتابا
طبعته مجلة دعوة الحق سنة2002، ذكر في أوله أنّ الأخبار عن هذا الأمير المرابطي
قليلة فقيرة، لكنه ـ مع ذلك ـ صنع كتابا في 199 صفحة ! تستمتع بقراءته، وتستفيد
مما فيه من معلومات واستطرادات.. وتتعجب من الجهد الذي بذله فيه.
(لقد زرتُ ضريحه شهر سبتمبر 2023، فالتقطت هذه الصورة لبابه، ومثله يستحق
أن يُزار).