حملني شيخ الطريقة البنانية الشيخ سيدي لطف الله البناني - أكرمه الله- معه لزيارة الشيخ الدكتور المحقق العلامة المسند الرُّحلة الشريف سيدي حمزة بن علي الكتاني، ببيته الكائن بالعاصمة الرباط، وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء 3 ذو القعدة 1434هـ/ 10 شتنبر 2013م.
ولجنا داره بعد أن حلّ وقت صلاة العصر، فأدخلتنا الخادم لبيت الضيافة، وبعد مرور بضعة دقائق إذا بالشيخ سيدي حمزة الكتاني - حفظه الله- يَقدُمُ علينا والبشر على وجهه، والسرور يظهر على محياه، متلفظاً بعبارات الترحيب التي تزيح وحشة اللقاء وتؤنس الضيف الغريب، فأصابنا حاله بالعدوى فغمرت قلوبنا الفرحة، وطاب لنا القعود.
كانت الزيارة زيارة مودّة ومحبة وتواصل علمي، تناول فيها الشيخان الحديث في شأن التصوف وهَمّ إحياء الطريق، وعن تحقيق بعض الكتب والمخطوطات، فكانت جلسة طيبة ممتعة كثيرة الفوائد.
وما بقيتْ من اللذات إلا *** مُحادثة الرجال ذوي العقول
وإنّي كنتُ - ولا زلتُ - أحبُّ هذه الأسرة الكريمة التي توارثت العلم والصلاح جيلا عن جيل، فظهر منها أئمة أعلام وسادة فخام وأولياء عظام، كان لهم الدور الكبير في إثراء العقول بالمعرفة وإصلاح القلوب وتزكيتها بالنظرة والمجالسة والصحبة التي هي مفتاح كل خير. وإني كلما اقتنيت شيئاً من مؤلفاتهم -القيّمة- إلا وأتشوق أكثر للتي لم تطبع بعد.
يزيدك وجه حسنا ** إذا
ما زدته نظرا
لقد مرّ على تلك الجلسة أزيد من عشرة أيام، لكنّ ذكراها الطيبة لا تزال راسخة في ذهني، وقد خلفّتْ لديّ انطباعاً طيباً، وعددتُها من نفيس الغنائم التي جادت بها الأيام.
وإنك قد تُلاقي من ينتسب للتصوّف، وله فيه رسائل مطبوعة، كما له سُمعة وشهرة، فتأتيه بقلب مشتاق مفعم بالمحبة، تحمل له الكثير من المودّة، وترجو من لقائه التواصل الفكري والتلاقح العلمي ولو لبضعة دقائق يبذلها لك من وقته، لكنه يلاقيك بوجه مُقطّب، فينظر إليك شزراً، ويتركك هملا، فينحاز لزاوية، ويتعلل بأعذار واهية، وكأنه يخشى أن تسلبه بركته، أو تستنفد كل ما عنده، فتتركه قاعاً صفصفاً.. فحينذاك تتمنى لو أنك لم تطرق بابه، ولم تتحمل مشاق الرّحلة إليه، وذلك حتى يَدوم ما كنتَ تحمله له في قلبك من وُدٍّ وتعظيمٍ وتقديرٍ..
الشيخ الشريف سيدي حمزة الكتاني من الصنف الأول الذي يُشرّف أهل العلم والمعرفة، فهو دائم الجدّ والبحث، في كل وقتٍ تصدر عناوين جديدة ألّفها، أو حقّقها، أو قدّم لها.
كما أنه يُلقي مواعظ ومحاضرات ودروساً وكلمات في الكثير من المناسبات التي يحضرها داخل المغرب وخارجه.
جالسَنا - أكرمه الله- لأزيد من ساعة، فضاحكنا،
وانبسط معنا، وأضافنا على طعامه، وسقانا من شرابه.
وجه المرء خير من القِرَى *** فكيف بمن يأتي به
وهو ضاحك
ولقد رأيتُ فيه غيرَةً وحميّة للمستضعفين، خاصّة ما يجري في بلاد سُوريا ومصر، عبّر عنها بلسانه، وخطها بقلمه، ودلتْ عليها مواقفه، فحمدتُ له هذا، إذ هي علامة على الشجاعة وكره الظلم وبغض الطغيان، وتلك -لاشك- من شيم الرجال.
وللشيخ أسانيد عالية، فهو ممن يُقصد لهذا الشأن، فكم لقي من العلماء داخل المغرب وخارجه، فأخذ عنهم، وقرأ عليهم، فمن وصل السند به فقد اتصل بخير كثير.
كما -أعلم- أن له حسنات يُخفيها، حدثني بعض من يُحسن الشيخ إليه في السّر ببعضها، فهو يُنفق من ماله على المحتاج الفقير، ويكرم الضيوف الذين لا ينقطعون عن طرق باب بيتهم من علماء وطلبة وباحثين ورجال السياسة وغيرهم.. فلمثلهم يدعى بالحفظ والزيادة في الرزق، والبركة في العلم والعمر.. فإن في بقاء أمثالهم نفع للناس.
قبل الخروج، وقد أدينا صلاة المغرب جماعة، وكنت أتيته بكتاب أرسله له أخي الدكتور سيدي فؤاد فوزي الطرابلسي من لبنان كهدية، أهدانا - أكرمه الله- بدوره مؤلفات لبعض مشايخ هذه الأسرة الكريمة المباركة مما طبع بالمشرق، ففرحت بها كثيراً -خاصة وأنني كنت أنوي شراءها-، واهتبلت بها، فأفضل هدية لمحبي العلوم، كتبا يقرأونها وينهلون مما فيها آناء الليل وأطراف النهار، فرجعتُ إلى بيتنا تلك الليلة وكلي غبطة وحبور مما حصلته ذاك المساء من فضل ونِعمة.
فجزى الله عنا شيخنا العلامة سيدي حمزة الكتاني خير الجزاء، وبارك فيه، إنه سميع مجيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق