« العالِم الدّيني يَجب أن يكون المثل الأعلى في التمسك بأهداب الدين في العقيدة والعمل والخُلق، مُواطئا مظهره لمخبره في جميع النواحي، صلبا أمام مَن تُحدثه نفسه الاعتداء على الحق»(1). هكذا وصَف الشيخ الإمام محمد زاهد الكوثري العالم الديني، وتلك الأوصاف كانت ـ حقيقة ـ تتجلى فيه، وكأنه كان يُحدثنا عن نفسه.
فقد كان ـ رحمه الله ـ لا يهاب لأجل نصرة الحق أحدا، أليس هو الذي يقول:« الجهر بالحق في كل رَبْع سُنّة السلف الصالح »(2)، لذلك كنتَ تراه يتدخل لتصحيح كل ما يراه مُعوجّا من الأمور ولا يقول:"وأنا مالي؟" هذه الكلمة التي يَرى بأنها « على وَجازتها هِي علة العلل في طروءِ الخلل على شؤون الأمة في كل زمن »(3).
وتُعجبني كلمة الأستاذ الأديب المؤرخ أحمد خيري حين رَوى وقوف الشيخ الكوثري ضدّ من سَعى لهدم المدرسة التي أنشأها السلطان مصطفى الثالث (ت 1187هـ) ورفع لأجل منع ذلك دعوى في المحكمة.. قال رحمه الله:« والآن أقف بُرهة أسائل فيها نفسي: كم من علماء الإسلام يستطيع ـ في سبيل ما يعتقده حقا ـ أن يقفَ في وجه من بيده أدنى سلطان فضلا عن الوقوف في وجه (جلالة) السلطان ؟ أظن أنّ العدد يكون قليلا جداً، والكوثري من هذا القليل النادر »(4).
لقد كان الإمام الكوثري إضافة إلى علمه وزهده وورعه.. شجاعاً قويّا في الحق، وقد اكتسب بسبب مَواقفه تلك عداوة الكثيرين مِنَ الإتّحاديين والكماليين الذين يُعادُون الدّين وينشرون الإلحاد بين المسلمين، ممّا اضطره إلى مغادرة بلاده فاراً بدينه مهاجرا إلى الله ورسوله حين « أخبره بعض المخلصين أن هناك مؤامرة لاعتقاله »(5)، فاحتضنته ببلاد مصر فاستجاز فيها وأجاز، وأفاد فيها واستفاد، وكان بها روضه الذي صار ـ بعد ذلك ـ مزارة لأهل العلم والفضل.
ويتسائل المرء: مِن أين اكتسب الشيخ الكوثري تلك الشجاعة ؟
أبسببِ انتسابه لمذهب الإمام الشهْم الهُمام سيدنا أبي حنيفة النعمان الذي توفي في سجنه لأنه رفض أن يتولى القضاء ؟ والذي أعان شيخه الإمام الشهيد زيد بن علي زين العابدين حين قومته ضد هشام بن عبد الملك بمالِه ؟ والذي كان ينصر الإمام محمد النفس الزكية ويَحث الناس على الخروج معه ضد المنصور؟(6)
أم أن شجاعته تشرَّبَها مِنْ شيوخه أمثال العلامة ضياء الدين بن الحسين التِّكْوَشي الذي « كان لا يخاف لومة لائم في بيان الحق »(7)، وعن مشايخ له أخذوا عن مثل: الشيخ المحدث أحمد ضياء الدين الكمشخانوي (ت 1311هـ) الذي « حارب الروس في جبهة الشرق متطوعا، وتحت قيادته جماعة من العلماء والطلاب »(8)، وعن مثل الشيخ الحافظ أحمد شاكر الكبير (ت 1315هـ) الذي « كان رحمه الله شهما أبيّ النفس، لا يعرف الملق والتزلف إلى أرباب الحكم، وقد شارك في حرب السرب سنة 1291هـ يقود جيشا جرّرا من متطوعي العلماء »(9) حتى فتحوا مدينة "علكسانيج"، وألقى « يوم الفتح خطبة الجمعة باسم الخليفة حيث صلى الجمعة في أكبر كنيسة هناك »(10) ؟
أمْ أنه تأثر بحكايات العلماء الذين يجهرون بالحق ويدعون إليه ممن ذكر بعضهم في "مقالاته" أمثال التابعي الجليل أبي حازم سلمة بن دينار(11) والشيخ محمد إسماعيل عبد رب النبي الذي ـ وصفه ـ بأنه « ظهرتْ مقدرته في الإرشاد والتذكير وبيان الحق ودفع الشكوك وقمع أهل الباطل، وقد آتاه الله سبحانه من الشجاعة الأدبية وقوة البيان ما جعله في أول صف المجاهدين في هذا القطر العزيز، يصارح بالحق في كل مكان، ويناصر الحق حيثما كان، يدور مع الحق حيثما دار، ويقطع بقلمه المرهف البتار رأس كل مبطل ثرثار، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولا يعرف الملق والاستكانة والمداجاة، ممسك بعنان براعته يستعمل اللطف في محله والعنف في مستهله، والنصر حليفه في ردوده مناظراته لأنه نصير الحق ولسان صدق»(12)؟
لعل كل ذلك وغيره ساهم في تكوين وإثراء شخصية الإمام الكوثري، وقد يكون الله تعالى وهبه من الصفات الكريمة وحباه من الخصال الحميدة ما يندر اجتماعه في واحد، لذلك ترى العديد من أهل المشرق والمغرب حرص على الأخذ عنه والتشرف بمجالسته، بل إن خصاله تِلك كانت سببا جاذبا للعديدين حتى صاروا من تلامذته الملازمين له (13).
لقد كان الكوثري محبا للحق ومَن يدعو له، مُحبا للعلماء الذين يُجاهدون في سبيل الله، يَذكر مناقبهم ويُعلي من أقدارهم وينشر فضائلهم.
كما كان أيضا ـ رحمه الله تعالى ـ يُبغض مَن هُم على العكس مِن ذلك، لأنه يرى أن « علماء كل شعب عنوان لأحوالهم الروحية، ورمز لكرامتهم ومهانتهم »(14)، لذلك تراه لا يتلطف مع الذين آخوا الصمت والسكون ودخلوا سراديب الجُبن والسلبية حين تكون الأمة تمرّ في ظروف عصيبة.
فالعالم الذي « لا همّ له سوى ملء الكرش ولمّ القرش قام الدين أم قعد »(15) ليس معدودا عنده مِن علماء الصدق ومِن أمناء الله في أرضه. واسمعه يتحدث حين رأى سموم الإلحاد تتدفق منذ سنين متطاولة على الأمة ينتقد يقول:« والحراس مِن ساداتنا العلماء نيام أو مستسلمون للتيار الجارف، فالكبار سكوت قانعون بالقوت، والصغار في سبيل الحصول على أساليب ترقيهم رقي الأشياخ متواكلين في أمر الذب عن الفضيلة والعقيدة المتوارثة والفقه المتوارث والخلق الإسلامي الرصين، فاقدين حماس الشباب، غير مفكرين في رضا رب الأرباب.. »(16).
وإنَّ الذي دعا الشيخ الكوثري إلى مثل هذه الكلمات النقدية اللاذعة في حق مثل هؤلاء "العلماء" المُتخاذلين، هو ما رآه ـ حينذاك ـ مِن حال الأمة المُزري الذِي وصلتْ إليه والذي أحز كثيرا في نفسه (17). ولمّا كان يُعظّم دور العلماء في النهوض بالأمة وتغيير ما بها، فإنه لم يَقبل عذر من تخلى عَن ثغْره منهم ونحى نحو السلامة وقنع بما ناله مِن نوال قليل..
فمن لم تكن له غيرة على الأمة المحمدية، ولم يَكن مِن المُشفقين على أبناءها، فلا يستحق عنده أن يُطلق عليه لقب "عالم".
رحم الله ذاك الرجل التقي الورِع الشجاع القوي الأبيّ الإمام محمد زاهد الكوثري.
-----------
(1 ) "مقالات الكوثري" الصفحة:389
(2) "مقالات الكوثري" الصفحة:391
(3) "مقالات الكوثري" الصفحة:407
(4 ) "مقالات الكوثري" الصفحة:438
(5 ) "مقالات الكوثري" الصفحة:438
(6) كان الإمام أبو حنيفة يقول عن المنصور:« إنه لص متغلب كما في تفسير الزمخشري ». "مقالات الكوثري" الصفحة:390
(7) "التحرير الوجيز" الصفحة:74
(8 ) "مقالات الكوثري" الصفحة:383
(9) "التحرير الوجيز" الصفحة:53
(10 ) "مقالات الكوثري" الصفحة:383
(11) "مقالات الكوثري" الصفحة:400
(12) "مقالات الكوثري" الصفحة:412
(13) أنظر على سبيل المثال ما قاله الأستاذ أحمد خيري عن سبب حرصه على الأخذ عن الشيخ الكوثري في ترجمته المفردة له. "مقالات الكوثري" الصفحة:443
(14) "مقالات الكوثري" الصفحة:389
(15) "مقالات الكوثري" الصفحة:391
(16) "مقالات الكوثري" الصفحة:411
(17) قال رحمه الله: « من استعرض أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يجد كثيراً مما يحزّ في النفس ». "مقالات الكوثري" الصفحة:406
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق