ذاك اليوم، وأنا أتجول في قريتنا بقعر
جبال منطقة سوس جنوب المغرب، وبينما كنت أتأمل جمال أزهار أشجار اللوز، وقد أمسكتُ بيدي إحدى الزهرات أقلبها، وأمتع عيني بصفائها، قلت
لنفسي: ترى أين تجد الآن من قد يمكنه أن يدري أسماء مُكونات هذه الزهرة ؟ فإذا بصورة الأستاذ الشاعر أحمد الشرقاوي إقبال تتجلى أمامي وترتسم في مخيلتي، فتعجبت لذلك كثيراً وقلتُ لنفسي مذعناً لها: أما هذا فنَعَم.
لقد استغربت تذكري لهذا الرجل العالم الأديب في تلك في تلك الجبال البعيدة وتلك البقعة النائية بمئات الكيلمترات عن مدينة مراكش، وإنّ هذا السيد ممن لا يُنكَر فضله ولا يُجهل
قدره، فهو من كبار أدباء مراكش المعاصرين، لأجل ذلك ترجم له المؤرخ الأستاذ أحمد
متفكر في كتابه "معجم شعراء مراكش في القرن العشرين" (ص 104)، لكن الذي أذهلني هو سرعة ظهور صورته مباشرة بعد أن طرحت على نفسي ذاك السؤال !
نعم، لقد كان هذا السيد من الحفاظ
الكبار للشعر، وكان ـ لسعة حفظه وقوة ذاكرته ـ إذا أرادَ أنشدَ لك حول كل ما يمكن أن تقع
عليه عينك عشرات الأبيات الشعرية، بل قل عشرات القصائد الأدبية، القديمة منها
والحديثة.
ومَن لم ينظر في سيرته، قد يظن أنّ ما قلناه في حقه إنما غلوّ مُحب له متعصب لبني زمنه ووطنه.
ولكي نقطع الشكوك، أنقل هنا كلام مَن خالط هذا السيد وتتلمذ عليه واستفاد بالأخذ عنه.
ولكي نقطع الشكوك، أنقل هنا كلام مَن خالط هذا السيد وتتلمذ عليه واستفاد بالأخذ عنه.
يَحكي الأستاذ عبد الغني أبو عزم في
سيرته الذاتية التي عنونها بـ"الضريح الآخر"، وهو يتحدث عن الفترة التي
كان يَدْرُس فيها بمدرسة تكوين المعلمين بمراكش، والتي كان مديرها حينذاك هو الأستاذ الداعية عبد السلام ياسين رحمه الله، أن الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال هو الذي كان يُدرّس فيها اللغة العربية، فقال عن أول حصة يحضرها عنده: « ما إنِ استوى كل واحد
على نفس مقعد الأمس الذي قرر أن يصير مقعده الدائم، حتى دخل علينا أستاذ أنيق في
ملبسه، بهي الطلعة، بشوش الوجه، متوسط القامة، له عينان هادئتان، عميقتان في
نظراتهما، حيّانا في هدوء وسكينة، وبدأ يستفسر كل واحد منا بلطف ورقة، عن اسمه ومن
أين جاء، وعن أصله وفصله، وكأنه يبحث عن الأسباب الخفية التي قادتنا إليه، كان
الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال ـ وقد عرّفنا على اسمِه بلباقة وتحايل على عكس ما فعل
السيد المدير ـ طلق المحيا، بسيط في عباراته، وكل كلمة قديمة تخرج من فمه يشرحها
لغوياً شرحا وافياً، ويسرد من ذاكرته كل أبيات الشعر التي توجد فيها تلك الكلمة،
بالإضافة إلى ما كان يورد من نوادر وأخبار الأدب والأدباء.
لم نحس بزمن الساعات الأولى كيف مرّت، ولم نكن نريد أن تنتهي، سرق أذهاننا، وحلّق بها بعيداً يتيه بنا في المظان القديمة، ينطلق من فكرة صغيرة لا قيمة لها، وسرعان ما يضخم حجمها ودلالتها ومقاصدها، بكل الاستطرادات والإجابات، ويعود إليها وقد أشبعها بحثاً وتنقيباً لتصبح فكرة كبيرة ذات محتوى عظيم يمكن لأي باحث أن يجعل منها موضوع بحث ودراسة ».
لم نحس بزمن الساعات الأولى كيف مرّت، ولم نكن نريد أن تنتهي، سرق أذهاننا، وحلّق بها بعيداً يتيه بنا في المظان القديمة، ينطلق من فكرة صغيرة لا قيمة لها، وسرعان ما يضخم حجمها ودلالتها ومقاصدها، بكل الاستطرادات والإجابات، ويعود إليها وقد أشبعها بحثاً وتنقيباً لتصبح فكرة كبيرة ذات محتوى عظيم يمكن لأي باحث أن يجعل منها موضوع بحث ودراسة ».
وقال(ص 116): « كان أستاذنا
الجليل وهذه أول مرة نتعرفُ عليه، يتحدث من الذاكرة، ولم يكن بحاجة إلى تحضير أو
إلى أي ورقة أو إلى رؤوس أقلام، وظلت هذه عادته لم يحد عنها إلا عندما يأتي محملا
بالمعاجم اللغوية العديدة، مقارنا بينها، وليعرفنا في آن واحد بما تزخر به المكتبة
العربية من أمهات الكتب، فهو يعرفها كما يعرف ملامح وخبايا أفراد أسرته واحدا
واحدا وبكل التفاصيل. ذاكرة لا ينضب معينها، تتجول بين الدواوين الشعرية طولا
وعرضاً، مصححاً ومنقحاً، إلى حدّ أننا أصبنا بعقدة الحفظ، لأن ما كنا نحفظه من شعر
المعلقات وأشعار محدودة جداً للمتنبي والمعري وشوقي وحافظ إبراهيم، لم يكن يساوي
جناح بعوضة أمام ما يستظهره من الآلاف المؤلفة من الشعر العربي القديم.
أذكر أني قصدتُ يوماً عن عمد أن أنقله
إلى الشعر الحديث، إذ كنت أحفظ عن ظهر قلب بعض قصائد نزار قباني، وكأنني أريد أن
أقول له إذا كنتَ تحفظ الشعر القديم فنحن أيضاً نحفظ الشعر الحديث، وكم كانت خيبتي
عظيمة، إذ لم أكد أكمل المقطع الأول من قصيدة خبز وحشيش وقمر، حتى انطلق يكمل
الأجزاء الباقية منها، وبدأ يحدثنا عن دواوين هذا الشاعر السوري، مستظهراً قصيدة
من هنا، وقصيدة من هناك، وأهم شيء ختم به حديثه عن الشعر الحديث قوله: "لا
تعتقدوا أنّ ما يسمى بالشعر الحُرّ هو شعر غير موزون، فهو بدوره خاضع لأوزان وتفاعيل
مضبوطة".
لم يفحمني فقط، بل أقحمني، وأخْرس
لساني.
لم يكن أي واحدٍ منا يُخفي إعجابه بهذا
الكنز الثمين الذي عثرنا عليه من أول درس تلقيناه على يده، ولم يكن يمر يوم من
أيام الأسبوع من دون أن نختزن من علمه الشيء الكثير. كان أستاذنا صاحب قلب كبير،
متسامحاً، عطوفاً، رقيق العواطف،يغض الطرف عن عيوبنا، ولا يظهر إلا المحاسن على قلتها،
وهذا سرّ الحبّ الذي ترسخ مع الأيام واتصل ولم يعرف انفصالا في القرب أو البعد
».اهـ
ومن الطريف قوله (ص 119) وهو يتحدث كيف
ضَبَطه بعض العاملين في مدرسة المعلمين وهو يراجع دورسه خِفْيَة على ضوء شمعة، مما
خيف منه أن ينساها مشتعلة فيتسبب في إشعال النار في كل المؤسسة: « هذه الفضيحة التي
شاعت أخبارها فيما بعد، وكانت محور درس من دروس الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال، حيث
تعرفنا على كل أبيات الشعر العربي التي تتغنى بالشمعة طولا وعرضاً، حباً وعشقاً،
ولم يفته بالهمز أن يشير إلى حرائقها، وما إلى ذلك من النوادر العديدة في موضوع
الشمعة ».هـ
لقد رخز المغرب برجال عظام في الفقه واللغة والأدب والحديث والقراءات وغيرها من العلوم والفنون، كانوا
شامة بين الناس، وإنّ الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال لمن هذه النوعية من الرجال الذين يفخر بهم المغرب وأهل المغرب أبد الدهر، وقد توفي ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 2000م، فحزن عليه أهل العلم والأدب، وفقدت مراكش أحد رجالاتها الأبرار وأدبائها الكبار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق