سنة 1999م، دخلتُ لدى كتبي أنظر
ما عنده، وبينما أنا أقلب تلك المؤلفات عثرتُ على كتاب "تأنيب الخطيب على ما
ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب" (طبعة دار الكتاب العربي سنة 1401/1981)
لمؤلف لا أعرفه حينذاك اسمه محمد بن زاهد الكوثري، فأعجبني العنوان وفكرة الكتاب،
حيث أنني ممّن يحب الأئمة الأربعة ويُحب من يناضل عنهم، وأبغض متنقصيهم والمتتبع
لزلاتهم..
فتصفحته لبضع دقائق، فشّدتني طريقة مؤلفه في الكتابة، والتي تبرهن على ملكةٍ عالية في التعبير على ما يريد بأدلة ساطعة وحُجج قوية، مع تنوع في المواضيع التي يطرقها عَقدية تاريخية وكلام في الرجال وغيرها وبنفس المستوى العلمي الراقي، فيخالك أن الرجل مَوسوعي الفكر، وأن أزمّة العلوم كلها بيده، يأخذ منها ما يشاء، فهي مُيسّرة له متمكن منها، وأن تأنيبه لاشك سيكون تأنيبا في محله.
فتصفحته لبضع دقائق، فشّدتني طريقة مؤلفه في الكتابة، والتي تبرهن على ملكةٍ عالية في التعبير على ما يريد بأدلة ساطعة وحُجج قوية، مع تنوع في المواضيع التي يطرقها عَقدية تاريخية وكلام في الرجال وغيرها وبنفس المستوى العلمي الراقي، فيخالك أن الرجل مَوسوعي الفكر، وأن أزمّة العلوم كلها بيده، يأخذ منها ما يشاء، فهي مُيسّرة له متمكن منها، وأن تأنيبه لاشك سيكون تأنيبا في محله.
فرجعتُ بالكتاب إلى الدار،
وكانت تلك أول مرّة أتعرف فيها على الإمام الكوثري رحمه الله.
ومَن يقرأ لهذا الرجل لاشك يَسلبُ
لبه، ويصير ممن يقتني كتبه، لذلك توالت مع مرور الشهور والسنوات مؤلفاته لتزاحم
أخواتها في مكتبتي الصغيرة، فما أجمل مقالاته، وما أحلى ترجماته لسادات المذهب الحنفي،
كأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وأبي جعفر الطحاوي وغيرهم، وكل
مؤَلَّفٍ طُبع بعنايته وتحقيقه يصير هو المطلوب من دون باقي طبعات الكتاب.
والعجيب أنّي لم أسمع بالرجل
قبل ذلك، فقد كنتُ في بيئة تهتم بكتب الفكر والدعوة والفقه، فلا هناك إلا مؤلفات
سيد سابق والإمام حسن البنا وفتحي يكن وسعيد حوى وسيد قطب ويوسف القرضاوي وغيرهم
من أقطاب الحركة الإسلامية، ولا مرة سمعت باسم الرجل في درس أو خطبة أو..!
فكانت فرحتي باكتشاف هذا الرجل
عارمة، وعددْتها من منن الله الكبيرة، فمن أهمل البحث في رفوف المكتبات فإنه يُضيّع -لاشك- على نفسه كنوزا عظيمة.
لقد كان الكوثري من كبار علماء
العصر، وكان الشيوخ يهتبلون بإجازاته والتلمذة له. وكان يبهرهم علم الشيخ قبل
اللقاء، فتبهرهم أخلاقه بعد الالتقاء به، فقد كان كاسمه، زاهداً في الدنيا مقبلا على
شأنه، متواضعا، باذلا علمه لمن طلبه، جميل الصورة، حسن الهندام، وكان
بيته مفتوحا للطلبة والعلماء يقرأون عليه، ويستفهمونه ما أشكل عليهم، فيجيبهم بما يتركهم
مشدوهين من سعة علمه وغزارة اطلاعه.
مِنَ الناس من يعتبره مجددا في
العقيدة، وهو حقيق بهذا الوصف، فمن نظر في "تكملة الرد على نونية ابن القيم"،
وفي تحقيقه لكتاب "دفع شبه التشبيه" لابن الجوزي، وفي تقديمه وتعليقه على "كتاب
الأسماء والصفات" للبيهقي، علم مقدار تبحر الرجل في هذا الباب.
وكانت اختياراته لعناوين الكتب
التي يعتني بها ويُخرجها من عالم المخطوطات إلى عالم المطبوعات تدل على حُسن ذوق الرجل وفطنته، وقد ورث تلك الفطنة وذاك الذوق وتلك الهمة تلامذته الذين أخذوا
عنه، وجلهم إمام محقق وأستاذ مدقق، فأين مثل الشيخ الشهير سيدي عبد الله بن الصديق
وشقيقه العلامة سيدي المحدث عبد العزيز بن الصديق، وأين مثل الشيخ العلامة المحقق سيدي
عبد الفتاح أبو غدة والشيخ العلامة سيدي محمد علوي بن عباس المالكي المكي ومسند الدنيا الشيخ سيدي محمد
ياسين الفاداني والمحدث سيدي محمد يوسف البنوري الباكستاني.. والقائمة طويلة.
لقد كانت حياة الكوثري بركة في
الوجود، استفاد منه علماء ومشايخ من المشرق والمغرب، وأثنوا عليه الخير الكثير، فعدّدوا
مناقبه وشكروا مَجهوداته وافتخروا بمعرفته..
فمن لا يعرف هذا الرجل ولم يسبق
له أن نظر في كتاب له، فليعزم على التعرف عليه، وليفتح صفحة من صفحات مؤلفاته،
وأنا أضمن أنه سيرجع بعلم غزير.
هذه كلمة محب، كتبتها من غير
ترتيب، فمن رأى فيها غلوا فليعذر صاحبها، لأنه ما تكلم إلا بقلبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق