السبت، 21 سبتمبر 2013

الشيخ العلامة المحدث سيدي عبد الله التليدي

( الصورة من حفل تكريم الشيخ سيدي عبد الله التليدي حفظه الله، بعدستي )


أخذتُ البارحة كتاب "العلامة أبو المواهب العباس بن أبي بكر البناني" لمؤلفه فضل الله بن إدريس الجامعي رحمه الله ، أتصفحه ، وأنظر فيه ، فوجدته (ص 153) يتحسر ويتعجب كيف « تتظافر الجهود وتتعاون الجموع لنفخ أبواق الدعاية الهائجة » حين يموت تافه من المغنين ، وهيان من العدائين.. ومن « لا تشعر الحياة بوجودهم ، ولا يؤثرون في ميزان العلم أو الأدب أو الفن شعيرة أو شعرة واحدة » ، بينما « تنْهدّ لنا صُروح ، وتهوى أفلاك علمية أدبية فنية حقا ، فلا تحرك منا ساكنا ، ونلمحها ـ إن فعلنا ـ بطرف خفي ، ثم نودعها سألين ساهين ، ثم تغيب في غفلة إهمال وسوء حال » !
فردتني هذه الكلمات إلى ذاك اليوم الذي سافرتُ فيه إلى طنجة لحضور حفل تكريم الشيخ العلامة المحدث سيدي عبد الله التليدي ، حيث ركبت سيارة طاكسي متوجها بها إلى المجلس العلمي مكان الحفل ، وفي الطريق تجاذبت أطراف الحديث مع السائق الطنجي ، وكان مما سألته عنه : هل تعرف الشيخ عبد الله التليدي ؟ فجهله ! وذكر أنه لا يعرفه ولم يسمع به !! فتحسّرت حينذاك على هذا الأمر ، وتعجبت أنْ يجهل أبناء طنجة وجود عالم كبير وشيخ محدث شهير بينهم ، يُعلم الناس الحديث والفقه والقرآن وغير ذلك من العلوم ، في مدينتهم لعدة عقود من الزمان !

لكن كما قيل: "أزْهد الناس في العالم جيرانه" ، وإنْ لم يعرف العامة قدر الشيخ فقد علمه الخاصة .
فلو ترى كيف تقاطرت جموع الفضلاء على القاعة حتى بقيَ العدد الغفير منهم واقفا لا يجد مكانا للجلوس ، ومع ذلك لم يبارحون أمكنتهم طول مدة الحفل ، وكانوا يُمتعون أبصارهم بالنظر إلى الشيخ الجليل ، الجميل الصورة ، الهادئ في جلسته ، البهي المنظر ، بجلبابه الأبيض يتوسط المجلس ، يُحرك شفتيه بالذكر لا يفتر ، فهذا الذي عن يمينه يثني على عِلمه ، وذاك الذي عن يساره يَرفع قَدره في الحفظ والعرفان ، وثالث يُطنب في مدح تهذيبه لجامع الإمام الترمذي..
كلّ من تدخل بمداخلة لم تكفيه المدة التي خُُصصت له ، وودوا لو استفاضوا في الحديث عن فضائل الشيخ وعلومه ومصنفاته ...
لكن مُسير الحفل كان لهم بالمرصاد ، فتراهم يصمتون على مَضض..
لقد كانت لحظات قوية يعتز فيها أهل العلم ويفتخرون.
حين تستمع لذاك الثناء من دكاترة لهم مصنفات عديدة ، وأعضاء مجالس علمية لهم تجربة طويلة في الوعظ والارشاد والخطابة.. تقول في سرّك: نَعَم ، ماضرَّ الشيخ أنْ لا يعرفه العوام إنْ كان عند الخواص بمثل هذه المنزلة ؟!

جرّتني هذه الذكرى إلى أخذ  كتاب "ذكريات من حياتي" لشيخنا التليدي ، أقلّب صفحاته بأناملي ، وأنتقل بين عناوينه..
وفيه يحكي شيخنا سيرته : أصله ، ومولده ، وما مرّ عليه من المِحن ، ومَن جالس من المشايخ والصالحين ، مُعددا مِنن الله تعالى عليه ، ذاكرا بعض المبشرات التي رآها أو رُئيت له ، متحدثا عن مصنفاته التي خطتها يمينه ، مُبرزا مذهبه الفقهي وعقيدته التي يدين الله بها..

يُعجبني في الشيخ إنصافه وتنوع معارفه ، فهو يُثني على فرق وجماعات إسلامية من بلدان شتى ، يُزكّي فكرهم ويُثمن دورهم في الدعوة إلى الله ونفع الناس وإنقاذهم من الإلحاد..، كما تراه يثني على عدد من العلماء والشيوخ ورجال الفكر ، مشارقة ومغاربة ، ممن صحبهم أو أخذ عنهم.. فيُكْبِرُ علمهم ، ويرفع من شأنهم ، ويطلق عليهم ألقابا عالية متحسرا على وفاة العديد منهم.

كما أعجبني فيه حِرصه على استقلاليته المادية ، وعدم قبوله لهبات ذوي الجاه والمال والنفوذ والسلطة وغيرهم ، مُتحريا الحلال ، شأن أهل الورع ، وكي لا يتقيد بقيدٍ يمنعه من الصّدع بما يراه حقا وردّ ما يراه باطلا ..
وهذا الذي نفع الإمام سحنون ـ رحمه الله ـ مع ابن الأغلب ، فكان هذا الأخير يقول إذا عارضه الإمام سحنون في أمر باطل يُريد إنفاذه : "إنَّ سحنون لم يركب لنا دابة ، ولا أثقل كمه بصُرَّة ، فهو لا يخافنا",

وأُحِبُّ فيه أيضا تعظيمه للسادة الصوفية قدّس الله أسرارهم، وقد خصّص لهم كتابه "المطرب" ، الذي عرّف فيه بمشاهير وكبار أولياء المغرب، وتراه يذكر في آخر كل ترجمة أنه زار ضريح المُعرَّف به ، ووقف عنده ،ودعا بدعوات..
وهل يشفي غليل المُحب إلا لثم تلك الجدُر وغمر الرأس بتراب نعال أولئك السادة الأكابر ؟
ورحم الله شيخ الإسلام الإمام تقي الدين السبكي الذي كان يخرج في الليل إلى دار الحديث الأشرفية (مدرسة شيخ الإسلام الإمام النووي) يتهجد فيها ، ويمرغ خديه على الأرض فوق البساط الذي قيل أن الإمام النووي كان يُدرس عليه ، وينشد:

في دار الحديث لطيف معنى * على بسط لها أصبو وآوي

عسى أني أمس بِحُرِّ وجهي * مكانا مسه قدم النـواوي

وأحببتُ في الشيخ اهتمامه بالناشئة من أبناء هذا البلد ، فقد فتح مدرسة تقام فيها الصلاة ، ويُتعلم فيها كتاب الله ، ويُتدارس فيها الحديث والفقه والمتون النحوية.. يرعاهم فيها شباب وأساتدة يلوح الخير والطمأنينة على وجوههم ، يستقبلونك بالبشاشة ويزيلون عنك بلطفهم تلك الوحشة التي تكون للوافد الجديد والغريب القادم من بعيد.
وقد صارت تلك المدرسة مقصد العلماء وطلبة الحديث من المشرق والمغرب ، فكم دخلها من شباب وعلماء من أندونيسيا واليمن والبحرين والسعودية والجزائر وغيرها من الأقطار ، ينهلون مما عند الشيخ من علوم وفهوم .. فلا يخرجون منها إلا وقد امتلأ وفاضهم علما وخيرا كثيرا.

انتهى الحفل والناس على يقين أنَّ الرجل لم يُوفّ حقه من التكريم الواجب له ، ومع أننا نُثمن تلك البادرة التي قام بها المجلس العلمي لطنجة ، إلا أننا ندعو إلى عمل مثيلات لها بشتى المدن المغربية ، لرجال آخرين علماء فضلاء ، قرُبت شمسهم أن تغيب ونادت عليهم قوافل الآخرة الرحيل الرحيل. 
والاحتفاء بالعلماء احتفاء بالعلم.

حفظ الله الشيخ المحدث سيدي عبد الله التليدي ،وبارك فيه ، ونفع بعلمه ، إنه سميع مجيب.



( كتبتُ هذه المقالة يوم : 25/08/2012 )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق