للمغاربة تعلق كبير بالجناب النبوي الكريم، وهم
على تعظيم يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الأيام مطبقون، فهو عندهم
أعظم الأعياد، وأفضل الأيام، وأفخم المواسم.
وقد كان آخر ما صَنّف العلامة أحمد ابن القاضي محمد بن أحمد اللخمي، المشهور بأبي العباس العزفي
السبتي (ت 633هـ)، كتاب: "الدر المنظم في مولد النبي المُعظم"، ندَب فيه
للاحتفال بالمولد الشريف، لكنه توفي قبل إتمامه، فأكمله ولده العالم الرئيس أبو القاسم العزفي (ت 677هـ)
رحمهما الله.
وللعلامة المحقق أحمد بن محمد بن الحاج السلمي
(ت 1316هـ) كتاب في تفضيل ليلة المولد على ليلة القدر!
وهو اختيار الإمام محمد بن أحمد بن مرزوق
التلمساني المالكي (ت 781هـ) مِن قَبْلِه، انتصر لرأيه هذا بأزيد من عشرين وجهاً،
ذكرها في كتابه: "جنا الجنتين في فضل الليلتين" .
ووافقهما على ذلك غير قليل من العلماء السابقين
والمعاصرين من المشارقة والمغاربة، كالإمام الرباني سيدي يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت
1350هـ)، والشيخ المحدث سيدي محمد الخضر الشنقيطي (ت 1354هـ) وغيرهما رحمهم الله
تعالى.
ولما كان ليوم المولد الشريف كل هذا القَدْر، فقد
اهتبلَ المغاربة: علماء، وحكام، وعوام، بالاحتفال به أيّما اهتبال، فأظهروا في ذلك
كل مظاهر الفرح والسرور مِنْ: إطعامٍ للطعام، وكثرة البذل والصدقات على الفقراء
والمساكين في السر والإعلان، وإنشاد المولديات وقصائد المديح النبوي، والسّماع
الذي يُطرب الآذان، وقراءة للقرآن الذي ينير القلوب، ومدارسة كتب االشمائل والسيرة النبوية، والإكثار
من الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك ..
وقد
اخترتُ أنْ أذكر هنا ما كان يصنعه بعض كبار علماء المغرب في أيام المولد الشريف،
وهم:
-
الإمام العارف المُربي سيدي أحمد
بن عاشر السلوي (ت 765).
-
الإمام العارف المجدد
سيدي يوسف الفاسي (ت 1013).
-
الإمام العلامة العارف سيدي علي
العكاري الرباطي (ت 1118).
-
الإمام العارف المحدث
سيدي محمد بن جعفر الكتاني الفاسي (ت 1345).
واقتصرتُ على هؤلاء السادة الأربعة، لإجماع
المغاربة على فضلهم، واتفاقهم على جلالتهم وسُموّ قدرهم، ولجمعهم بين العلم والصلاح.
٭٭٭
* أما
مفخرة مدينة سلا، وعارفها الأشهر، الشيخ سيدي أحمد بن عاشر السلوي، فقد
كان - نوّر الله ضريحه- يُعظم يوم المولد الشريف ويَحتفل به، ويرى الصيام فيه غير
مَقبول، إذ لا يكمل الفرح والسرور إلا بإطعام الطعام .
يَحكي تلميذه الإمام الرباني الشيخ سيدي أحمد
بن عبّاد (ت 792) - عليه الرحمة والرضوان- في « رسائله: كُنتُ قديماً خرجتُ يوم
مولده صلى الله عليه وسلم صائماً إلى ساحل البحر، فوجدتُ هناك السيد الحاج ابن
عاشر رحمه الله تعالى وجماعة من أصحابه، معهم طعام يأكلونه، فأرادوا مِني الأكل،
فقلتُ: إني صائم، فنظر إليَّ السيد الحاج نظرة منكرة، وقال لي: هذا يوم فرحٍ
وسُرور، يُستقبح في مثله الصوم، كالعيد. فتأملتُ مقالته، فوجدته حقاً، فكأنه
أيقظني من النوم ».
نقل هذه الحكاية شيخنا العلامة المحدث سيدي عبد
الله التليدي في كتابه المُشرق: "المطرب بمشاهير أولياء المَغرب"(1)، ثم
علق عليها ـ رحمه الله ـ قائلا: « وإنه كما قال، فإن المولد النبوي يُعتبر موسماً من
مواسم المسلمين، وعيداً عظيماً من الأعياد، وهو من البدع الحسنة التي تشهد أصول
الإسلام وقواعده باستحبابه، لأن المقصود منه هو التظاهر بما يدل على شكر الله عز
وجل على ما أنعم ومنّ به علينا من إيجاد هذا النبي الكريم وإخراجه لهذا الكون، وهو
الرحمة العظمى لهذا العالم صلى الله عليه وسلم »(2).
وهذا هو الحق الذي لا مِرية فيه .
٭٭٭
* أما شيخ مشايخ المغرب، الإمام الكبير، والعارف
الشهير، الذي قيل عنه أنه مُجدد قرنه، سيدي يوسف الفاسي - أعلى الله درجته -، فقد
كان يحتفل احتفالا عظيما باليوم الثاني عشر وباليوم الثامن عشر من كل شهر ربيع
الأول، على أساس أن يوم الثاني عشر يوم المولد النبوي الشريف كما قال بذلك ابن
إسحاق واختاره، ويوم الثامن عشر يوم العقيقة !
فكان ـ كما يحكي ذلك عنه نجله الإمام سيدي محمد
العربي الفاسي (ت 1052هـ) ـ : « يُرخّصُ في السّماع للمولد الشريف، فيجتمع لذلك عنده
خلق عظيم، ويحضر أهل السماع الذين يحفظون مقطعات الشيخ أبي الحسن الششتري وما يجري
مجراها، ويُحْكمون صناعة تلحينها دون آلة، ويُحكمون طرق تلحين الميلاديات المعربة
الموزونة بأوزان الشعر العربي وما يجري مجراه، والموزونة على عروض البلد وغيره على
العادة في ذلك بحضرة فاس، ويَشرعون في ذلك بعد صلاة الصبح في أول وقتها، فيبدؤون
بالميلاديات، فإذا قضوا منها وطراً؛ أخذوا في الشّشْتريات وما يجري مجراها إلى قرب
الزوال، وكان يرى أنه أعظم أفراح المسلمين وأعيادهم التي للسماع فيها أصل في
الشرع أصيل » (3).
وكان رحمه الله تعالى « يُطعم الناس في ذلك اليوم
العصيدة: من سميد وقمح، وتُؤكل بالسمن والعسل وثريد الزِّرْمك بلحم الغنم، ومع كل
قصعة منه صحن من عسل ليُؤكل به، وكثيراً ما يزاد مع ذلك الرُوزْ مطبوخاً باللبن
الحليب، مأكولا بالسمن والعسل، حتى يعم ذلك الناس، ويحضر خلق من المساكين لا يحصون،
فيأكلون ويحملون ما أمكن، يصنع ذلك في اليوم الثاني عشر كما تقدم ذكره، وفي سابعه
أيضاً، وهو اليوم الثامن عشر على ما جرت به العادة في فاس » (4).
٭٭٭
* أما
شيخ الرباط، العلامة الكبير، العارف بالله، الشيخ سيدي علي بن محمد العكاري
الرباطي، فقد قال العلامة المؤرخ سيدي محمد بن علي دينيه الرباطي في كتابه
"مجالس الانبساط"(5)، أنه - نَوّر الله مَرقده- كان: « يُعظم
أيام المولد النبوي، ويجمع الطلبة أسبوعاً أو أكثر، يقرأون القصائد في مدح النبي
صلى الله عليه وسلم في موضع ضريحه الآن، ويُطعمهم، ويُكرمهم، وهو مُبتهج
فرَحاً وسروراً بذلك » .
٭٭٭
* أمّا
المحدث الشهير، والإمام الكبير الذائع الصيت، صاحب المؤلفات البديعة النافعة،
الشيخ سيدي محمد بن جعفر الكتاني، فقد كان - رحمه الله تعالى - يُعِد لليلة ويوم
المولد الشريف السّنة كلّها !!
قال الدكتور سيدي محمد بن عزوز في
كتابه: "المحدث الكبير العلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني"، عند حديثه عن كرم وبذل هذا العلامة الجليل، أنه كان: « يجمع أفراحه ومواسمه ومسارّه كلها
فرحاً بجدّه الرسول صلى الله عليه وسلم وتنويهاً بمولده الشريف ومعراجه المنيف. فكان يحتفلُ باليوم الموافق ليوم ولادته
عليه الصلاة والسلام 12 ربيع الأول من كل سنة.
ومن كرمه المفرطِ وجودِه الشهير؛ كان يقوم بذلك
الفرح الكبير والمهرجان الشهير كل سنة، فكان يستعد للإحتفال بذلك اليوم والليلة
السّنة كلها، ويشتري قناطير اللوز، وأكياس السّكّر، ويعجن آلاف الحلوى المعروفة
ب"كعب الغْزَال" و"الغْرِيبَة"، ويذبح عشرات الرؤوس من الضأن،
ورُبما البقر، ويستعمل أنواعاً من الأطعمة والحلويات، وتكون دعوته عمومية لا
يستثني منها أحد: الأشراف والحكام على اختلافهم، والعلماء بطبقاتهم، وسائر أهل
البلد من العامة والضعفاء والمساكين وسائر الطبقات، ويستدعي سائر منشدي البلد
والمتعاطين لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحاب الأصوات الحسنة والحفظ للبردة
والهمزية ونحوها. فيستغرقون الأوقات في إنشاد البردة والهمزية والبغدادية مخللا
بكلام ابن الفارض وأمثاله، في أنواع الطيب والعود القماري، وماء الورد والزهر.
ثم تُسْرَدُ قصة المولد الشريف، فإذا وصل القارئ
لمحل القيام يقوم ويقوم معه سائر الحاضرين، ويحصل للناس من الأنس والفرح ما لا
مزيد عليه. وكان يكره في ذلك قول الملحون أو الإتيان بتلك الألفاظ الركيكة وينهى
عن ذلك .
وكان يقوم بخدمة الزوار بنفسه وأولاده ومَن أطاعه
من أقاربه وخاصته في خشوع وفرح وخضوع، ويمضي في هذه الحالة ليلة المولد ويومه،
والناس على اختلاف طبقاتهم يتواردون متبركين مستمدين ... لا يكاد يترك هذا
الاحتفال بالمشرق والمغرب إلا لمانع قهري » (6).
بل كان ـ جدد الله على قبره الرحمات ـ لشدة تَعلقه بالجناب النبوي
الشريف، « في بعض السنين أيضاً يستعمل حفلة المديح النبوي كل جمعة بعد صلاتها،
يستدعي جماعة من المنشدين أهل المديح النبوي، ويحضرها من شاء من جميع المعارف
والأحباب والملازمين، فتقرأ البردة والهمزية، ويبقى ذلك إلى نحو العصر، ثم تُمد
موائد الطعام والشراب، فيأكلون ويشربون ثم ينصرفون قرب صلاة المغرب، دعوة عامة كل
جمعة » (7).
٭٭٭
فهذه بعض من مظاهر اهتبال أعلام علماء المغرب
الأقصى بالمولد النبوي الشريف، ولو أننا أردنا تتبع ما كان يصنعه غيرهم من
الحكام، والفقهاء، والعلماء، والعارفين، لصارت الورقات كتاباً حافلا، لكن في الاختصار غنية عن الإطالة لمن هداه الله تعالى للرشاد.
قال ابن زمرك رحمه الله:
.
يا مصطفىً وكِمام الكَونِ ما فُتِقتْ * يا مجتبىً وزِنادُ النور ما قُدِحا
لولاك ما أشرقت شمس ولا قمر * لولاك ما راقت الأفلاك مُلتَمَحا
صًدعتَ بالنور تجلو كلّ داجِيةٍ * حتى تَبَيّن نهجُ الحق واتّضحا
يا فاتح الرسل أوْ يا ختمها شرفاً * بوركتَ مختتِماً قُدّست مُفتتِحا
دنوتَ للخلق بالألطاف تَمنحُها * والقلب في العالم العُلويّ ما برِحا
كالشمس في الأفق الأعلى مَجَرّتُها * والنور منها إلى الأبصار قد وَضَحا
كم آية لرسول الله مُعجزةٍ * تكِلّ عن منتهاها ألسُن الفُصحا
إن رُدّت الشمس من بعد الغروب له * قد ظلّلته غمامُ الجوّ حيث نَحا
يا نعمةً عظُمت في الخلق منّتُها * ورحمةً تشملُ الغادين والرَّوَحا
الله أعطاك ما لم يؤته أحداً * والله أكرمُ من أعطى ومن منَحا
حبيبهُ مُصطفاه مُجتباه وفي * هذا بلاغ لمن حلاّك ممتدحا
والحمد لله رب العالمين