الاثنين، 23 سبتمبر 2013

في زيارة للشيخ العلامة سيدي حمزة الكتاني - حفظه الله-



حملني شيخ الطريقة البنانية الشيخ سيدي لطف الله البناني - أكرمه الله- معه لزيارة الشيخ الدكتور المحقق العلامة المسند الرُّحلة الشريف سيدي حمزة بن علي الكتاني، ببيته الكائن بالعاصمة الرباط، وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء 3 ذو القعدة 1434هـ/ 10 شتنبر 2013م. 

ولجنا داره بعد أن حلّ وقت صلاة العصر، فأدخلتنا الخادم لبيت الضيافة، وبعد مرور بضعة دقائق إذا بالشيخ سيدي حمزة الكتاني - حفظه الله- يَقدُمُ علينا والبشر على وجهه، والسرور يظهر على محياه، متلفظاً بعبارات الترحيب التي تزيح وحشة اللقاء وتؤنس الضيف الغريب، فأصابنا حاله بالعدوى فغمرت قلوبنا الفرحة، وطاب لنا القعود.

كانت الزيارة زيارة مودّة ومحبة وتواصل علمي، تناول فيها الشيخان الحديث في شأن التصوف وهَمّ إحياء الطريق، وعن تحقيق بعض الكتب والمخطوطات، فكانت جلسة طيبة ممتعة كثيرة الفوائد.

وما بقيتْ من اللذات إلا *** مُحادثة الرجال ذوي العقول

وإنّي كنتُ - ولا زلتُ - أحبُّ هذه الأسرة الكريمة التي توارثت العلم والصلاح جيلا عن جيل، فظهر منها أئمة أعلام وسادة فخام وأولياء عظام، كان لهم الدور الكبير في إثراء العقول بالمعرفة وإصلاح القلوب وتزكيتها بالنظرة والمجالسة والصحبة التي هي مفتاح كل خير. وإني كلما اقتنيت شيئاً من مؤلفاتهم -القيّمة- إلا وأتشوق أكثر للتي لم تطبع بعد.

يزيدك وجه حسنا ** إذا ما زدته نظرا

لقد مرّ على تلك الجلسة أزيد من عشرة أيام، لكنّ ذكراها الطيبة لا تزال راسخة في ذهني، وقد خلفّتْ لديّ انطباعاً طيباً، وعددتُها من نفيس الغنائم التي جادت بها الأيام. 

وإنك قد تُلاقي من ينتسب للتصوّف، وله فيه رسائل مطبوعة، كما له سُمعة وشهرة، فتأتيه بقلب مشتاق مفعم بالمحبة، تحمل له الكثير من المودّة، وترجو من لقائه التواصل الفكري والتلاقح العلمي ولو لبضعة دقائق يبذلها لك من وقته، لكنه يلاقيك بوجه مُقطّب، فينظر إليك شزراً، ويتركك هملا، فينحاز لزاوية، ويتعلل بأعذار واهية، وكأنه يخشى أن تسلبه بركته، أو تستنفد كل ما عنده، فتتركه قاعاً صفصفاً.. فحينذاك تتمنى لو أنك لم تطرق بابه، ولم تتحمل مشاق الرّحلة إليه، وذلك حتى يَدوم ما كنتَ تحمله له في قلبك من وُدٍّ وتعظيمٍ وتقديرٍ..

الشيخ الشريف سيدي حمزة الكتاني من الصنف الأول الذي يُشرّف أهل العلم والمعرفة، فهو دائم الجدّ والبحث، في كل وقتٍ تصدر عناوين جديدة ألّفها، أو حقّقها، أو قدّم لها.
كما أنه يُلقي مواعظ ومحاضرات ودروساً وكلمات في الكثير من المناسبات التي يحضرها داخل المغرب وخارجه
.
جالسَنا - أكرمه الله- لأزيد من ساعة، فضاحكنا، وانبسط معنا، وأضافنا على طعامه، وسقانا من شرابه.


وجه المرء خير من القِرَى *** فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك

ولقد رأيتُ فيه غيرَةً وحميّة للمستضعفين، خاصّة ما يجري في بلاد سُوريا ومصر، عبّر عنها بلسانه، وخطها بقلمه، ودلتْ عليها مواقفه، فحمدتُ له هذا، إذ هي علامة على الشجاعة وكره الظلم وبغض الطغيان، وتلك -لاشك- من شيم الرجال.

وللشيخ أسانيد عالية، فهو ممن يُقصد لهذا الشأن، فكم لقي من العلماء داخل المغرب وخارجه، فأخذ عنهم، وقرأ عليهم، فمن وصل السند به فقد اتصل بخير كثير.

كما -أعلم- أن له حسنات يُخفيها، حدثني بعض من يُحسن الشيخ إليه في السّر ببعضها، فهو يُنفق من ماله على المحتاج الفقير، ويكرم الضيوف الذين لا ينقطعون عن طرق باب بيتهم من علماء وطلبة وباحثين ورجال السياسة وغيرهم.. فلمثلهم يدعى بالحفظ والزيادة في الرزق، والبركة في العلم والعمر.. فإن في بقاء أمثالهم نفع للناس.

قبل الخروج، وقد أدينا صلاة المغرب جماعة، وكنت أتيته بكتاب أرسله له أخي الدكتور سيدي فؤاد فوزي الطرابلسي من لبنان كهدية، أهدانا - أكرمه الله- بدوره مؤلفات لبعض مشايخ هذه الأسرة الكريمة المباركة مما طبع بالمشرق، ففرحت بها كثيراً -خاصة وأنني كنت أنوي شراءها-، واهتبلت بها، فأفضل هدية لمحبي العلوم، كتبا يقرأونها وينهلون مما فيها آناء الليل وأطراف النهار، فرجعتُ إلى بيتنا تلك الليلة وكلي غبطة وحبور مما حصلته ذاك المساء من فضل ونِعمة.


فجزى الله عنا شيخنا العلامة سيدي حمزة الكتاني خير الجزاء، وبارك فيه، إنه سميع مجيب.

الأحد، 22 سبتمبر 2013

الإمام أبو الحسن الندوي –نوّر الله مرقده-



كان –رحمه الله تعالى- عيناً يستقي منها أهل المشرق والمغرب.
 لقد فاض سرّه، وانتشر ذِكْرُه، وذاعتْ فضائله، وعمّ علمه، وأُثني عليه بكل لسان.
فلا تسل عمّا أطلق عليه من جميل الألقاب التي تدل على علوّ رُتبته وسموّ مكانته، فهو « من أكابر أعلام العصر الربانيين، وقدوة صالحة موهوبة، من أشهر العلماء الداعين الهادين المفكرين » كما قال عنه تلميذه الشيخ العلامة المحدث سيدي عبد الفتاح أبو غدة، وهو « واحداً من هؤلاء الأفذاذ الذين بعثهم الله لهذه الأمة ليجددوا لها دينها، ويعيدوا لها يقينها، وينهضوا بها لتؤدي رسالتها » كما قال عنه تلميذه الشيخ الداعية المفكر سيدي يوسف القرضاوي، وهو «العلامة الكبير والداعية الاسلامي الشهير»[1] كما قال عنه تلميذه شيخنا العلامة النسابة المسند سيدي محمد بن عبد الله آل رشيد، وهو « السيد الجليل » و« أستاذ الأجيال »[2] كما نعته بذلك الشيخ الداعية المربي الأستاذ سيدي عبد السلام ياسين -رحمه الله-، وهو « الداعية الكبير والعلامة العظيم »[3] حسب وصف شيخنا العلامة المربي المحدث سيدي عبد الله التليدي –حفظه الله-.

فكنتَ تجدُ على بابه يقف طالب الحكمة، ألم يكن ـ رحمه الله- يُلقب بـ"حكيم الأمة"؟
كما تجدُ طالب الحديث الشريف يتتبع مجالسه إذ كان ـ عليه الرحمة والرضوان- متصل الأسانيد بسيد السادات ـ صلى الله عليه وآله وسلم- وبالأئمة أصحاب المؤلفات في السنة وغيرها من العلوم والفنون، وقد ألف له الدكتور محمد أكرم النّدوي ثبتاً مطبوعاً سماه "نفحات الهند واليمن بأسانيد الشيخ  أبي الحسن"، وإن « طالب العلم يفتخر ويعتزّ أن يتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمثال العلامة الجليل السيد أبي الحسن الندوي »[4] كما قال في التقديم له ناشره شيخنا سيدي محمد بن عبد الله آل رشيد ـ حفظه الله-.  
وتجد أيضا على بابه يقف من يرغب في الغوص في الفِكر وتعلّم أساليب الدعوة وآدابها، ألم يمارس ـ نوّر الله مرقده- الدعوة لسنوات طويلة، وسافر لأجل ذلك إلى العديد من المناطق، وكان خطيباً مُفوهاً، وقد جالس تلامذة الإمام حسن البنا ـ رحمه الله-، كما جالس مؤسس دعوة "رجال التليغ" الشيخ العلامة المربي سيدي محمد إلياس الكاندهلوي ـ رحمه الله- ، فاقتبس من فوائدهم وأنوارهم ؟
وكذا نرى من يطلب معرفة التصوف وطريق أهل التعرف يجثو على الركب في حلقاته ويحضر محاضراته ليقتبس من أنواره وفهومه، أليس قد صحب الشيخ عبد القادر الرائيبوري واستفاد من صحبته والأخذ عنه، فصار ممن ينفع بالحال كما المقال ؟
ومن يطلب الفقه أيضا يأتيه، أليس من مؤلفاته  كتاب "الأركان الأربعة"؟

ولد - أعلى الله مرتبته - بالهند سنة 1914م، توفي والده وهو دون العاشرة، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم اللغة الأردية والفارسية، وبعد ذلك تعلم الانجليزية، وتعلم العربية، وأخذ عن الشيوخ، وكان من بين شيوخه الذين استفاد منهم الشيخ تقي الدين الهلالي المغربي حين وفد على بلاد الهند، والتحق بجامعة لكهنو، ثم التحق بدار العلوم لندوة العلماء فاشتغل بالتدريس بها، وقام بعدة رحلات، وقد طبع كتابه "مذكرات سائح في الشرق العربي" وكذا كتابه "من نهر كابل إلى نهر اليرموك" وفيهما يحكي وقائع رحلاته لبلدان المشرق ومن قابل فيها من الأعلام وغير ذلك.
وقد خدم ـ رحمه الله- الإسلام في تلك النواحي أعظم خدمة، وأّسس وشارك في تأسيس عدة مؤسسات منها:" مركزاً للتعليمات الإسلامية، و"حركة رسالة الإنسانية"، و"المجمع الإسلامي العلمي في لكهنؤ"، وغيرها.

أما مؤلفاته فإنك تراها في مكتبة كل عالم وداعية وفقيه ومربي ومفكر، يُوصون بها، ويحضّون على اقتنائها ومطالعتها، وذلك لما فيها من العلم والفائدة والفكر المستنير، أشهرها كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"، وكتاب "رجال الفكر والدعوة"، وكتاب "ربانية لا رهبانية".
له ما لا يُعدّ من التلامذة في شتى البلدان، أخذوا عنه واتصلوا به، وعدوا ذلك من السعادة ومن نفحات الدهر.
وقد بقي الشيخ رحمه الله على سيرته الطيبة، مرفوع الجناب، عالي المقام، حتى توفاه الله إليه سنة 1999م.

فرحمة الله على هذا الجهبذ الكبير والعلامة النبيل رحمة واسعة.




[1]  "نفحات الهند واليمن بأسانيد الشيخ  أبي الحسن" الصفحة: د
[2]  "الإحسان":1/9
[3]  "ذكريات من حياتي" الصفحة:171
[4]  "نفحات الهند واليمن بأسانيد الشيخ  أبي الحسن" الصفحة: هـ

كتاب الدكتور محمد رياض عن الشيخ سيدي عبد الرحمن الصديقي الدكالي



كتب الدكتور محمد رياض - رحمه الله - كتاباً مهماً في ترجمة الشيخ أبي شعيب الدكالي، طُبع في جزأين، ثم اشتغل بعد ذلك بتأليف آخر في ترجمة ولده الشيخ عبد الرحمن الصديقي، غير أن المنية أدركته قبل أنْ يُنهيَهُ، فقام الكتاب المؤرخ الأستاذ أحمد متفكر بمراجعة المادة التي خلفها الدكتور محمد رياض في مسودتها، وحرّر بعض فقراته، حتى أتمه، فطَبع الكتاب في بمراكش سنة 2013م، وضم إليه الأستاذ أحمد متفكر ديوان الشيخ عبد الرحمن الدكالي الذي سبق وجمعه وطبعه.

الكتاب قيّمٌ، تجد فيه ترجمة رجل من رجالات العلم والوطنية والأدب بلاد المغرب الأقصى، وقد قدم الدكتور محمد رياض ترجمته للشيخ عبد الرحمن الدكالي بالحديث عن أصله وموطنه، وما تتميز به دكالة في عدة مجالات: كالتربية، والجهاد، والعلم، وما فيها من مدارس، وزوايا علمية..إلخ

ثم تكلم عن عصره ومن عاصرهم من الحكام، ثم تحدث عن مسيرته العلمية، وعن شيوخه الذين درس عليهم بالمشرق والمغرب، ثم مَرّ لبيان جهوده العلمية ومساهماته في الحركة الفكرية لهذا البلد، فقد ساهم - رحمه الله- في تأسيس رابطة العلماء، كذا دار الحديث الحسنية، وكان عضو أكاديمية المملكة المغربية، كما رأس المجلس العلمي لمدينة الجديدة الذي حبس عليه خزانة كتبه، وقد رأيتُ خزانته يوم زرت مدينة الجديدة أول مرة سنة 2012م، ورأيت بها صورة كبيرة معلقة على حائطها للشيخ أبي شعيب الدكالي، وكانت لنا محاورة مع بعض الشيوخ هناك عن الشيخ أبي شعيب..
وقد ترك ديواناً ضم العديد من القصائد، ضبطه ونسقه وعلق عليه الأستاذ المؤرخ أحمد متفكر،  أقتطف منه[1] قوله في قصيدة نظمها للإشارة لما تعانيه الجزائر في محنتها أيام الاستعمار:

إخوة الدين والعروبة هذي * أمة منكم فأين الوفاء
إنها تكسر القيود وترمى * بالدواهي وإنها عزلاء
سلبت عزها ومات بنوها * واستباحت أعراضها الأعداء 
فامنحوها السلاح والمال حتى * يشهد الغرب أنكم كرماء
واعلموا أنهم على كل حال * في سبيل استقلالهم شهداء

وقد لقي الشيخ عبد الرحمن الدكالي - لمكانته العلمية..- اهتماماً وعناية من طرف الملك محمد الخامس وكذا من طرف الملك الحسن الثاني -رحمهما الله-، ونال العديد من الأوسمة، وتقلّب في العديد من الوظائف، منها أنه عُيّن كاتبا للضبط بمجلس الإستئناف الشرعي، ثم تولّى القضاء، كما عُيّن كاتبا عاما لوزارة الأوقاف، وصارَ مُرشداً عاماً للقوات المسلحة الملكية برتبة كمندار، ثم رقي إلى رتبة عقيد، ورحل بوصفه هذا إلى الكونغو فأسلم على يده من أبناء تلك البلاد عشرات وعشرات قال « أنهم تجاوزا:200 مسلم وحملوا إسمه: عبد الرحمن ».[2]
من مميزاته التي عرف بها: قوّة حافظته. 
قال المؤرخ سيدي عبد الوهاب بن منصور في وصفه:« من أهم مميزاته: ذاكرته القوية، وحافظته الواعية، شنشنة ورثها عن أبيه، لقد كان يحفظ أشعار العرب الفريدة، وأخبارهم العجيبة، دع عنك كلام الله وحديث الرسول، ويستظهر معلقات العرب وأراجيزها ومقاماتها وموشحاتها، وطرائفها ومستملحاتها، مثلما كان يحفظ المتون التي بينت أحكام الدين وتضمنت قواعد العلوم، إذا سئل عن شيء منها اندفع كالسيل يروي ما يستحضره فيه بديهة وارتجالا، من غير إعداد ولا تهيئ، وأذكر أنه جرى منذ سنتين في إحدى المسامرات بالحضرة الملكية ذكر قضية سدانة الكعبة، وكونها خالدة تالدة في بني شيبة إلى يوم القيامة، وكان بعض المسامرين فهم أن تخصيص بني شيبة بهذا الامتياز إنما هو لأمد محدود بعصر النبوة، فرد عليه أحد السمار بأنه امتياز مؤبد مطلق غير مقصور على زمن معين، وكانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، فطلب زميلنا المرحوم بالهاتف وهو آو على فراشه مستغرق في نومه، وطلب منه أن يروي الحديث النبوي الوارد في المسألة، فانبرى يروي الحديث كما ورد في الكتب الصحاح، يذكر رواته ورواياته كما وردت في كل مسند وجامع وصحيح، فارتفع الاشكال، وسكت الجدال ».[3]
وُلِد بمكة سنة 1905م، وكانت وفاته ـ كما يشتهي- بالمدينة المنورة بعد أداء صلاة الصبح يوم 30 مارس 1983م، ودُفن بالبقيع.




[1]  "الشيخ عبد الرحمن الصديقي":2/235
[2]  "الشيخ عبد الرحمن الصديقي":1/528
[3]  "الشيخ عبد الرحمن الصديقي":1/529

السبت، 21 سبتمبر 2013

في زيارة للشيخ العلامة الدكتور الشيخ سيدي إدريس الكتاني


ـ عن يسار الشيخ إدريس الكتاني الأستاذ رضى الله عبد الوافي، وعن يمينه يوسف أبجيك ـ

أخذتُ موعداً مع الدكتور سيدي عمر الكتاني لزيارة والده الشيخ العلامة الدكتور سيدي إدريس الكتاني ـ حفظه الله ـ، وقد كانَ لمّا سمع أنّ الزائر هو الأستاذ رضى اللهعبد الوافي ابن العلامة الأديب سيدي المختار السوسي؛ رحّبَ، وأبدى سروره الكبير، ووَعَد خيراً.
فأعدنا الاتصال به يوم الجمعة 12 شعبان 1434هـ، الموافق ل 21 يونيو 2013 م، حَسبَ الاتفاق، فأنبأنا أنّ والده سيكون بانتظارنا في داره على الساعة الخامسة زوالا. 
فكنا في المَوعد.

طرقتُ الباب، فخرجتْ إلينا الخادم، فأخبرتها بأننا على موعد مع العلامة سيدي إدريس، فدخلتْ لتستأذن لنا، وبعد لحظات عادتْ ففتحتِ الباب مُشرعاً لتعْلمنا أنّ الشيخ بانتظارنا، دخلنا حديقة البيت، وإذا بالشيخ يَظهر من وراء باب المنزل وهو يَتكئ على عكازته الطبّية ذات القوائم الثلاث، ويخطو إلينا بخطوات بطيئة، والبشر على وجهه، وكلماته بالترحيب تصل إلى مَسامعنا، فقطعنا تلك المسافة التي تفصلنا عنه بسرعة كي لا نُتعب الشيخ العالي السّن والمقام بمزيد من الخَطو.

وبعد التحية وتقبيلنا لليَد والرأس[1]، أخذَنا الشيخ إلى حيث يُجالس الزوّار في زاوية من بيت الضّيافة، فقعدنا على أريكة، ثم سأل منْ منا هو ابن العلامة المختار السوسي ؟ فعرّفه الأستاذ عبد الوافي بنفسه، فكان أوّل ما قاله له الدكتور سيدي إدريس الكتاني بعد أن استمع إليه هو:« المختار السوسي، أنا عِشتُ معه، وأقدّره تقديراً كبيراً »، ثم أضاف مثنياً عليه:« هُو من رجال المغرب الأقحاح المؤمنين الصامدين ».

لقد أبدى الشيخ سعادته بهذه الزيارة، وأضافنا على حلوى ولذيذ الشراب، وطالت مجالستنا له لمدةٍ تقارب ساعةً ونصف، انبسط فيها أيّما انبساط، أليس يُجالس ابن من نَعته في نفس المجلس بقوله:« بالنسبة للكتانيين هو الشخصية الأولى التي نفتخرُ بها، ونعتزّ بها، ونعدّه واحداً من العائلة ».

وكانَ أنْ حضر معنا طرفاً من هذه الجلسة ابنة الشيخ: طبيبة العيون الدكتورة بثينة الكتاني لحلو، فآنستنا بمشاركتنا الحديث والمائدة.
ومثل الشيخ إدريس الكتاني مَن يرحل المرء للقائه ولو نأتْ داره مئات الأمْيال، ففي مثله يتحقّق قول الناصح:

أيها الإخوان أوصيكم * وصية الوالد والوالدة
لا تنقلوا الأقدام إلا إلى * من عندكم في قربه فائدة
إمّا لعلم تستفيدونه * أو لكريم عنده مائدة

وقد أهدى إليه الأستاذ رضى الله عبد الوافي  بعضاً مِن مؤلفات والده مِمّا طُبع حديثاً باعتنائه، وأراه مواضع منها حيث ترجم والده لبعض مشايخه من السادة الكتانيين[2]، وأظهر له بعض ما فيها من وثائق وصور، فأخذ الشيخ إدريس الكتاني يتصفحها مُهتبلا بها، وقال أنها كانت تنقصه، وأنه كان شديد الحاجة إليها.

ثم لمّا أعلمه السيد عبد الوافي بالمقصد من الزيارة، وأنه لأجل السؤال عن كلمته التي ألقاها في حفل تأبين العلامة المختار السوسي المنعقد إبان وفاته، وأراه صورة لإحدى الجرائد التي سَجلت ذلك الحدث في صفحاتها، وذكّرَه بأنه كان أول المتدخلين بعد كلمة الملك الراحل الحسن الثاني -رحمه الله- والتي ألقاها نيابة عنه المؤرخ سيدي عبد الوهاب بن منصور - رحمه الله ـ، وأخبره أنه يرغب في تسجيلها وإضافتها للكتاب الذي سيصدر قريباً بمناسبة حلول الذكرى الخمسينية لوفاة العلامة المختار السوسي ضمن مجموع الكلمات التي قيلت في تأبينه في ذلك الحفل، ولما رأى الشيخ إدريس الكتاني اسمه في تلك الصورة سعِد ـ حفظه الله- كثيراً، إذ رجعنا به إلى تلك الفترة التي كان يُقَدّرُ فيها الرجل حقّ التقدير ويُعْطى له من المرتبة ما يستحقها، فاقترح ـ حفظه الله- أنْ يكون حفل إحياء الذكرى الخمسينية لوفاة العلامة المختار السوسي بداره، في تلك القاعة الواسعة حيث كنا نجالسه[3]، وقال بأن على جميع الهيئات العلمية والمؤسسات الفكرية والسياسية.. أن تشارك في هذا الحفل، وأنْ يكون في غير ما مدينة، مُعللا ذلك وهو يتحدث عن المختار السوسي، بأن:« الشعب كله يُحبه، ويَذكر مفاخره ومزاياه وما قام به في حياته ». غير أن ذاكرة الشيخ لم تسعفه كيْ يُخبرنا هل كانت كلمته تلك والتي ألقاها في حفل تأبين العلامة المختار السوسي مكتوبة أو مرتجلة.

هذا مجمل ما دار في تلك الجلسة، وكان ختامها أن طلبتُ منه أن يُسْمعنا الحديثَ المُسلسل بالأولية، كما صنع والده الإمام الكبير شيخ الإسلام سيدي محمد بن جعفر الكتاني - نوّر الله مرقده- مع العلامة سيدي المختار السوسي -عليه الرحمة والرضوان-، حيث أسمعه إياه لمّا عاد من الديار المشرقية[4]، ففعل، ثم أهدانا بعض مؤلفاته، وقال أننا مُرحّبٌ بنا في أي وقت نشاء، وأنّ البيت بيتنا، وكان ختام الجلسة دعوات مباركات دعا لنا بها - جزاه الله خيرا-، ثم قمنا بعد أنْ سلّمنا عليه نقصد الخروج، فشيّعنا إلى باب الدار بتلك الخطوات البطيئة المتئدة، فودّعناه على أساس أنْ تلك ستكون - إن شاء الله تعالى- أوّل الزيارات وليس آخرها.

« السّوسي شكورٌ غير كفور، وأنه يَألفُ ويُؤلف، وأنه يُقدر العظماء قدرهم، ولا يتصف بالأنفة إلا ما طابت سريرته وزكت أرومته »[5] ، بمثل هذه الأخلاق وغيرها التي كان يتصف بها العلامة سيدي محمد المختار السوسي ـ رحمه الله ـ ، تكوّنتْ له في قلوب كل المغاربة محبة عظيمة، ومودّة جدّ صافية، فصار كلما ذُكر شُكر وأثنيَ عليه، وتسارعتْ دعوات الترحم تطلبه.







[1]  ليس هناك ما يمنع من تقبيل أيدي أهل العلم والفضل، وقد ألف في ذلك شيخ عدد من مشايخنا العلامة المحدث سيدي عبد الله بن الصديق الغماري ـ رحمه الله- رسالة سماها:"إعلام النبيل بجواز التقبيل" ألفها في مصر، وكذا للعلامة المؤرخ سيدي محمد الكانوني العبدي الآسفي ـ رحمه الله- رسالة سماها "توضيح السبيل فيما ورد في السنة من التقبيل"، ولغيرهما، فلا حرج من فعل ذلك، خاصة مع أمثال الشيخ إدريس الكتاني وهو من الطاعنين في السن، وقد أُمِرنا بتعظيم أمثالهم، فكيف وقد جمع إلى ذلك العلم والشرف والفضل ؟ فإنّ تقبيل يده حينها من علامات التوقير والأدب.
[2]  ترجَم العلامة المختار السوسي في "مشيخة الإلغيين من الحضريين" لشيخه الإمام محمد بن جعفر الكتاني وكذا للشيخ عبد الحي الكتاني (ص 183)، كما ترجم فيه للشيخ الطاهر الكتاني (ص 186)، وترجم في "معتقل الصحراء"(2/46) لأبي المزايا إبراهيم الكتاني ترجمة طنانة، أثنى فيها عليه وعلى العديد من أفراد هذه الأسرة. فهي محبة متبادلة وتواد وتواصل.
[3]  وهذا يُظهر المودة الصافية التي يكنها أفراد هذه الأسرة للعلامة سيدي المختار السوسي، وقد سبق أن أقام العلامة إبراهيم الكتاني بداره بفاس حفلة تكريمية للعلامة المختار السوسي حين حصّل هذا الأخير ما قدّر له من علم بهذه المدينة وأراد الرحيل عنها. أنظر كتاب "ذكريات" (ص 17).
[4]  أنظر حكاية ذلك في "مشيخة الإلغيين من الحضريين" (ص 184).
[5]  "مشيخة الإلغيين من الحضريين" (ص 309).

العارف الكبير سيدي أحمد بن عاشر رحمه الله


(كتبتها يوم الأربعاء 14 دجنبر 2011 م، الموافق ل 18 محرم 1433 هـ)

ذاك اليوم سعيتُ لمعرفة مَحَلّ ضريح العارف الشهير والوليّ الكبير سيدي أحمد بن عاشر أنارَ الله مرقده.
قصدتُ مدينة سلا حيث يذكر المؤرخون أنه رحمه الله توفي فيها وبها يتواجد ضريحه المقصود للتوسل والزيارة. 
هذه المدينة القديمة المباركة، قال عنها العلامة ابن قنفذ القسنطيني رحمه الله في كتابه "أنس الفقير وعز الحقير" أنها « مقرّ الصّالحين » وأنها « أولى بالمريد بالمغرب من غيرها ». والتي مدحها العلامة ابن الخطيب في "معيار الإختيار"- كما نقله العلامة محمد بن علي دنية الرباطي في "مجالس الإنبساط" (صفحة:66)- فقال:« هي العقيلة المفضلة، والبطيحة المحصلة، والقاعدة الموصلة، والسورة المفصلة، ذات الوسامة والنضارة، والجامعة بين البداوة والحضارة، معدن القطن والكتان والمدرسة والمارستان، والزاوية كأنها بستان، والوادي المتعدد الأجفان، والقطر الأمين عند الرجفان، والعصير العظيم الشان، والأسواق السارة حتى برقيق الحبشان، اكتنفها المسرح والخصب الذي لا يبرح. ثم قال في مدحها أيضاً: وهي على الجملة من غيرها أوفق، ومغارمها لاحترام الملوك الكرام أرفق، ومقبرتها المنضدة عجيبة في الانتظام، معدودة في المرافق العظام، ويتأتى بها للعبادة الخلوة، وتوجد عندها للهموم سلوة ».. إلخ.
وقال عنها العلامة محمد بن علي دنية الرباطي بعد هذا الكلام وغيره فقال فيها كلمة الختام:« هي من الثغور المباركة، والأمكنة المشرفة، التي يجتمع فيها الأخيار ».
وتجد في ثنايا بعض المؤلفات تشوق إليها وأبيات شعر فيها وحنين وزفرات إلى لقاء أناسها وأعلامها.. 

قلت: تلك أوصافها في ذاك الزمان، أما اليوم فهي محط الإهمال، شملها التهميش، وأشرقت عليها شمس الإجرام.. فصارت محط رحال اللئام، إلا نزراً يسيراً من الرجال، ممن أراد الله تعالى بهم نفع الأمة وصلاح العباد، فحيث تشتد الظلمة يكونون، يقتلعون الناس من بين أنياب الشيطان، فلله درّهم، نسأله تعالى أن يحفظهم .

لم أكن أدري من أين أبدأ البحث، فيمّمت الوجهة نحو "المسجد الأعظم". 
هناك، مددت بصري وتفحصت المكان، لا علامة تهدي أو لا فتة تُرشد. 
وبينما أنا في حيرتي إذ بشيخٍ هَرِم يَجرّ الخطى يمرّ من أمامي، استوقفته سائلا: السلام عليكم، سيّدي، هل تعلم مكان ضريح العارف سيدي احمد بن عاشر ؟ 
فنظر إليّ ملياً، وفحصني بنظره، ثم سأل: من أين أنت ؟ 
فأدهشني سؤاله وأنا الذي كنت أنتظر الإجابة! 
فأخبرته أنني من الجارة: العاصمة الرباط. 
ثم سأل مرة أخرى: في أي جُزءٍ منها ؟ 
فزاد استغرابي إذ لم يظهرْ لي المغزى من سؤاله، فبينما أنا أبحث عمّن يدلني ويخرجني من حيرتي إذا بها تزداد ! ومع ذلك لم يكن لي من بد سوى الإذعان وإمداده بالإجابة، فالرجل شيخ كبير، وقد أُمِرنا من المعصوم صلى الله عليه وسلم بتوقير أمثاله، ومعرفة حقهم، وحُسن رعايتهم، وكمال الأدب معهم، وعدم الاستخفاف بهم..
وهنا نطقَ الشيخ مُستهجناً مستغرباً:" أنت تسكنُ مدينة الرباط، ولا تعرف حتّى أين يوجد ضريح سيدي احمد بن عاشر" ؟!! 
فارتفع حينذاك حجاب دهشتي، وعلمتُ أن من وراء الأسئلة مقصد، وأن الرجل ليس ممن أصاب الزمن عقولهم بمُصاب، بل عاقلٌ أراد توجيه رسالة وإيقاظ وسنان..
فخجلتُ من نفسي، واستحييتُ من جهلي، ولانت له مسامعي.. 


ولعلّ الشيخ قاسني بنفسه حين كان في مثل سنّي، حين كان الناس لا يزالون على فطرتهم الصافية، ونياتهم النقية، وأخلاقهم البسيطة، فكانوا يعظمون الأولياء ويلتمسون بركاتهم، فيقصدون أضرحتهم للدعاء هناك، طمعاً في الإجابة بقرب أجداث أولئك السادة، حيث أرواحهم ترفرف خفاقة وتملأ الأجواء نسمات رقراقة.. 
وكأن الشيخ توقف به الزمن في أبعينيات القرن الماضي، حين كان في سن العاشرة أو العشرين من عمره- كذا قدّرت-، وكان اسم الولي سيدي احمد بن عاشر حينذاك يملأ ذكره سماء العدوتين، فلا تجد رجلا أو امرأة إلا وهو عالم بفضله ينحني إجلالا عند ذكر اسمه، متوسلا به عند المصائب، راجياً به تحقيق كثير من الرغائب.. 
فانقلب الزمان عما كان، وتعثرت العقول في عقال الجهل والضلال، وصارت الشمس يُسأل عنها في رابعة النهار..
وصدق الرجل، أوَيُجهلُ ضريح مثل هذا الجهبذ ؟! 
أوليس هذا هو الذي حلاّه الإمام محمد بن جعفر الكتاني في "سلوة الأنفاس" (2/313) على أنه:« الشيخ الكبير، الولي الصالح الشهير، الورع الزاهد، المنقبض العابد، الحاج الأبرّ الناسك، المسلك السالك أبو العباس سيدي أحمد..». ووصفه فقال:« كان رحمه الله سباقاً للخير، منقطع القرين في الزهد، شديد المراقبة، عالي الهمة والشرف، جليل المقام، ذاكراً لعلم الحلال والحرام، متمكناً من مقام الورع، لا يشق فيه غباره، ولا تجهل آثاره، وكانت له كرامات ظاهرة، وأحوال عجيبة باهرة، ومناقبه كثيرة ». 
أوليس هذا هو الذي أثنى عليه العلامة ابن قنفذ رحمه الله في "أنس الفقير وعز الحقير"(صفحة:7) فقال:« ولي الله تعالى على التحقيق، وهو الشيخ الحاج الزاهد الورع الصالح أبو العباس أحمد ». 
أوليس هذا الذي جعله العلامة محمد بن أبي بكر الحضرمي في صدر كتابه "السلسل العذب"، وأثنى عليه بقوله:« بدأت في الطبقة الأولى بمتبع الورع، أهدي الاتباع، السائر في طرق الاجتهاد بالباع المديد والخطو الوَساع، المؤثر للخلوة والانقطاع، الملتئمة على تفضيله عقائد الإطباق والإجماع، القاطع علائق الدنيا جملة وتفصيلا، فلم يدع بينها وبينه لما أعد للضروريات سبيلا، الشيخ الجامع أبي العباس ». 
أوليس هذا الذي ترجم له أحمد بن القاضي المكناسي في "جذوة الاقتباس"(1/153) وكان مما وصفه به أنه:« منقطع القين في الزهد، وله كرامات ظاهرة ». 
أوليس هذا الذي ترجم له العلامة محمد بن محمد مخلوف في "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية"(صفحة:233 رقم:838) فقال:« الشيخ الصالح، أحد العلماء الأخيار، من رجال الكمال، والأولياء الأبدال، مشهور بإجابة الدعوة، معروف بالكرامات، جمع بين العلم والعمل. قال ابن عرفة: ما أدركت مبرزاً في زماننا إلا الشيخ أبا الحسن المنتصر، وأحمد بن عاشر ». 
لأجل كل هذا الثناء وهذه الصفات العوالي وغيرها.. عدّه الشيخ المحدث عبد الله التليدي في كتابه "المطرب" من مشاهير أولياء المغرب، وحُقّ له ذلك.
فالجهل بمثل هذا السيد عيبٌ شنيع، ونقص قبيح، خاصة لمن يقطن مدينة سلا أو جارتها العاصمة الرباط. فكان لاستغراب ذاك الشيخ من جهل شباب زماننا- الذي أمثله في ناظره- بمكان تواجد ضريحه، نصيب من الصواب يستحق الزجر والعتاب.
أما أن تقول له انك تجهل من يكون؛ فلعل تلك تكون القاضية في حقه.
٭٭٭
ثم إن الشيخ، أمسك بيدي وعزم على إرشادي لمقصودي، فسار بي عدّة خطوات وحادثني بكلمات، وكان مما قال بعد أن أشار إلى حيث يظهر الضريح من بعيد:«  الناس يعظمون أصحابَ القباب، ولعل في الأحياء من هم أعلى درجة منهم أو مثلهم ».
والأمر كما قال صحيح، ولستُ أظنه سعى للتنقيص، بل هو حكاية للواقع. 
ثم وقفَ، وقال متحدثاً عن نفسه:« فأنا مثلا، أواصل عدة أيام لا أفطر، فإن لم يطعموني لا أسألهم" ثم أضاف:"وفي بعض الأحيان يلوح لي في المنام رجلا منوراً يقف عليّ..»، وهنا صمت الشيخ عن الاسترسال في الكلام، والتفت إليّ بكليته وقال:« ومن يقول لي، فقد تكون أنت الماثل أمامي لست شخصاً عادياً، بل قد تكون ولياً من أولياء الله؟! ».
وهنا انتزع الشيخ مني ابتسامة جَهدتُ كثيراً كي أخفيها حياءاً منه وتعظيماً لشيبته أن يظن مني سوء الأدب، لكن عبثاً حاولت.. إذ أبتْ إلا الظهور، فبرزتْ صغيرة مستحيية، وقلتُ لنفسي:" نعم، صدق الشيخ، من يدري..".
٭٭٭
استأنفنا السير، إلى أن أوقفني أكرمه الله أمام باب الضريح، فدخلتُ، وبقي هو في الخارج، فقدّمت الرجل اليمنى بعد البسملة، ونظرت، وسلمت تسليم التحية، ثم خرجت. 
ولولا أن المكان كان فيه جمع من النساء.. لمكثت بضع دقائق أستأنس فيها بالمكان وساكنه، وأنتقل فيه بالزمان إلى تلك القرون حيث كانت جلسات الفقه وشرح كتاب "الإحياء" يلقيها الشيخ ابن عاشر يتحلق حوله في مجلسه أمثال الإمام العارف بان عباد شارح "الحكم" وغيره من الرجال الفخام الذي جمعوا بين العلم والولاية وصاروا منارة يُهتدى بها وأئمة يقتدى بهم... 
لكن منعني الحياء، والحياء كما قال صلى الله عليه وآله وسلم " خير كله".

وعند الخروج، وجدت الشيخ وافقاً أمام بائع للحلوي، وهو يأكل منها، وفي يده مثلها، ولعل مشيتي معه ومحادثتي له فتحت له الشهية، ومن كان في مثل سنه رُخّض له في عدم صوم الفريضة إن كان الصيام يضره، فكيف بالنفل.
ثم أخذ بيدي حتى دلني على مكان ركوب سيارات الأجرة التي تنقل إلى الضفة الأخرى حيث العاصمة، فودعته شاكراً له ما أسدى إلي من معروف، وما تكرم به من الرفق في الدلالة، والأنس عند المرافقة.
وكان ذلك آخر العهد به.
فإن كان الشيخ لا يزال حياً فهذه أخلاق الشيوخ مع الصغار.
وإن كان انتقل إلى الدار الآخرة فرحمة الله عليه وأنار مرقده.
وآخر الكلام، هذه السطور ليست دعوة إلى زيارة الأضرحة، وإن كان هذا شيء مشروع، لكنها دعوة إلى النظر في التاريخ ومعرفة الثرات وإحياء ذكرى الجدود.
والحمد لله رب العالمين.

احتفال علماء المغرب الأقصى بالمولد النبوي الشريف




للمغاربة تعلق كبير بالجناب النبوي الكريم، وهم على تعظيم يوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الأيام مطبقون، فهو عندهم أعظم الأعياد، وأفضل الأيام، وأفخم المواسم. 

وقد كان آخر ما صَنّف العلامة أحمد ابن القاضي محمد بن أحمد اللخمي، المشهور بأبي العباس العزفي السبتي (ت 633هـ)، كتاب: "الدر المنظم في مولد النبي المُعظم"، ندَب فيه للاحتفال بالمولد الشريف، لكنه توفي قبل إتمامه، فأكمله ولده العالم الرئيس أبو القاسم العزفي (ت 677هـ) رحمهما الله. 
وللعلامة المحقق أحمد بن محمد بن الحاج السلمي (ت 1316هـ) كتاب في تفضيل ليلة المولد على ليلة القدر! 
وهو اختيار الإمام محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني المالكي (ت 781هـ) مِن قَبْلِه، انتصر لرأيه هذا بأزيد من عشرين وجهاً، ذكرها في كتابه: "جنا الجنتين في فضل الليلتين" . 
ووافقهما على ذلك غير قليل من العلماء السابقين والمعاصرين من المشارقة والمغاربة، كالإمام الرباني سيدي يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت 1350هـ)، والشيخ المحدث سيدي محمد الخضر الشنقيطي (ت 1354هـ) وغيرهما رحمهم الله تعالى.

ولما كان ليوم المولد الشريف كل هذا القَدْر، فقد اهتبلَ المغاربة: علماء، وحكام، وعوام، بالاحتفال به أيّما اهتبال، فأظهروا في ذلك كل مظاهر الفرح والسرور مِنْ: إطعامٍ للطعام، وكثرة البذل والصدقات على الفقراء والمساكين في السر والإعلان، وإنشاد المولديات وقصائد المديح النبوي، والسّماع الذي يُطرب الآذان، وقراءة للقرآن الذي ينير القلوب، ومدارسة كتب االشمائل والسيرة النبوية، والإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك ..

وقد اخترتُ أنْ أذكر هنا ما كان يصنعه بعض كبار علماء المغرب في أيام المولد الشريف، وهم: 
-         الإمام العارف المُربي سيدي أحمد بن عاشر السلوي (ت 765).
-         الإمام العارف المجدد سيدي يوسف الفاسي (ت 1013).
-         الإمام العلامة العارف سيدي علي العكاري الرباطي (ت 1118).
-         الإمام العارف المحدث سيدي محمد بن جعفر الكتاني الفاسي (ت 1345).
واقتصرتُ على هؤلاء السادة الأربعة، لإجماع المغاربة على فضلهم، واتفاقهم على جلالتهم وسُموّ قدرهم، ولجمعهم بين العلم والصلاح.
٭٭٭

* أما مفخرة مدينة سلا، وعارفها الأشهر، الشيخ سيدي أحمد بن عاشر السلوي، فقد كان - نوّر الله ضريحه- يُعظم يوم المولد الشريف ويَحتفل به، ويرى الصيام فيه غير مَقبول، إذ لا يكمل الفرح والسرور إلا بإطعام الطعام .
يَحكي تلميذه الإمام الرباني الشيخ سيدي أحمد بن عبّاد (ت 792) - عليه الرحمة والرضوان- في « رسائله: كُنتُ قديماً خرجتُ يوم مولده صلى الله عليه وسلم صائماً إلى ساحل البحر، فوجدتُ هناك السيد الحاج ابن عاشر رحمه الله تعالى وجماعة من أصحابه، معهم طعام يأكلونه، فأرادوا مِني الأكل، فقلتُ: إني صائم، فنظر إليَّ السيد الحاج نظرة منكرة، وقال لي: هذا يوم فرحٍ وسُرور، يُستقبح في مثله الصوم، كالعيد. فتأملتُ مقالته، فوجدته حقاً، فكأنه أيقظني من النوم ».

نقل هذه الحكاية شيخنا العلامة المحدث سيدي عبد الله التليدي في كتابه المُشرق: "المطرب بمشاهير أولياء المَغرب"(1)، ثم علق عليها ـ رحمه الله ـ قائلا: « وإنه كما قال، فإن المولد النبوي يُعتبر موسماً من مواسم المسلمين، وعيداً عظيماً من الأعياد، وهو من البدع الحسنة التي تشهد أصول الإسلام وقواعده باستحبابه، لأن المقصود منه هو التظاهر بما يدل على شكر الله عز وجل على ما أنعم ومنّ به علينا من إيجاد هذا النبي الكريم وإخراجه لهذا الكون، وهو الرحمة العظمى لهذا العالم صلى الله عليه وسلم »(2).
وهذا هو الحق الذي لا مِرية فيه .
٭٭٭
*  أما شيخ مشايخ المغرب، الإمام الكبير، والعارف الشهير، الذي قيل عنه أنه مُجدد قرنه، سيدي يوسف الفاسي - أعلى الله درجته -، فقد كان يحتفل احتفالا عظيما باليوم الثاني عشر وباليوم الثامن عشر من كل شهر ربيع الأول، على أساس أن يوم الثاني عشر يوم المولد النبوي الشريف كما قال بذلك ابن إسحاق واختاره، ويوم الثامن عشر يوم العقيقة !

فكان ـ كما يحكي ذلك عنه نجله الإمام سيدي محمد العربي الفاسي (ت 1052هـ) ـ : « يُرخّصُ في السّماع للمولد الشريف، فيجتمع لذلك عنده خلق عظيم، ويحضر أهل السماع الذين يحفظون مقطعات الشيخ أبي الحسن الششتري وما يجري مجراها، ويُحْكمون صناعة تلحينها دون آلة، ويُحكمون طرق تلحين الميلاديات المعربة الموزونة بأوزان الشعر العربي وما يجري مجراه، والموزونة على عروض البلد وغيره على العادة في ذلك بحضرة فاس، ويَشرعون في ذلك بعد صلاة الصبح في أول وقتها، فيبدؤون بالميلاديات، فإذا قضوا منها وطراً؛ أخذوا في الشّشْتريات وما يجري مجراها إلى قرب الزوال، وكان يرى أنه أعظم أفراح المسلمين وأعيادهم التي للسماع فيها أصل في الشرع أصيل » (3). 

وكان رحمه الله تعالى « يُطعم الناس في ذلك اليوم العصيدة: من سميد وقمح، وتُؤكل بالسمن والعسل وثريد الزِّرْمك بلحم الغنم، ومع كل قصعة منه صحن من عسل ليُؤكل به، وكثيراً ما يزاد مع ذلك الرُوزْ مطبوخاً باللبن الحليب، مأكولا بالسمن والعسل، حتى يعم ذلك الناس، ويحضر خلق من المساكين لا يحصون، فيأكلون ويحملون ما أمكن، يصنع ذلك في اليوم الثاني عشر كما تقدم ذكره، وفي سابعه أيضاً، وهو اليوم الثامن عشر على ما جرت به العادة في فاس » (4). 
٭٭٭
* أما شيخ الرباط، العلامة الكبير، العارف بالله، الشيخ سيدي علي بن محمد العكاري الرباطي، فقد قال العلامة المؤرخ سيدي محمد بن علي دينيه الرباطي في كتابه "مجالس الانبساط"(5)، أنه - نَوّر الله مَرقده- كان: « يُعظم أيام المولد النبوي، ويجمع الطلبة أسبوعاً أو أكثر، يقرأون القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم في موضع ضريحه الآن، ويُطعمهم، ويُكرمهم، وهو مُبتهج فرَحاً وسروراً بذلك » . 
٭٭٭

* أمّا المحدث الشهير، والإمام الكبير الذائع الصيت، صاحب المؤلفات البديعة النافعة، الشيخ سيدي محمد بن جعفر الكتاني، فقد كان - رحمه الله تعالى - يُعِد لليلة ويوم المولد الشريف السّنة كلّها !!

قال الدكتور سيدي محمد بن عزوز في كتابه: "المحدث الكبير العلامة السيد محمد بن جعفر الكتاني"، عند حديثه عن كرم وبذل هذا العلامة الجليل، أنه كان: « يجمع أفراحه ومواسمه ومسارّه كلها فرحاً بجدّه الرسول صلى الله عليه وسلم وتنويهاً بمولده الشريف ومعراجه المنيف. فكان يحتفلُ باليوم الموافق ليوم ولادته عليه الصلاة والسلام 12 ربيع الأول من كل سنة. 
ومن كرمه المفرطِ وجودِه الشهير؛ كان يقوم بذلك الفرح الكبير والمهرجان الشهير كل سنة، فكان يستعد للإحتفال بذلك اليوم والليلة السّنة كلها، ويشتري قناطير اللوز، وأكياس السّكّر، ويعجن آلاف الحلوى المعروفة ب"كعب الغْزَال" و"الغْرِيبَة"، ويذبح عشرات الرؤوس من الضأن، ورُبما البقر، ويستعمل أنواعاً من الأطعمة والحلويات، وتكون دعوته عمومية لا يستثني منها أحد: الأشراف والحكام على اختلافهم، والعلماء بطبقاتهم، وسائر أهل البلد من العامة والضعفاء والمساكين وسائر الطبقات، ويستدعي سائر منشدي البلد والمتعاطين لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحاب الأصوات الحسنة والحفظ للبردة والهمزية ونحوها. فيستغرقون الأوقات في إنشاد البردة والهمزية والبغدادية مخللا بكلام ابن الفارض وأمثاله، في أنواع الطيب والعود القماري، وماء الورد والزهر.
ثم تُسْرَدُ قصة المولد الشريف، فإذا وصل القارئ لمحل القيام يقوم ويقوم معه سائر الحاضرين، ويحصل للناس من الأنس والفرح ما لا مزيد عليه. وكان يكره في ذلك قول الملحون أو الإتيان بتلك الألفاظ الركيكة وينهى عن ذلك .
وكان يقوم بخدمة الزوار بنفسه وأولاده ومَن أطاعه من أقاربه وخاصته في خشوع وفرح وخضوع، ويمضي في هذه الحالة ليلة المولد ويومه، والناس على اختلاف طبقاتهم يتواردون متبركين مستمدين ... لا يكاد يترك هذا الاحتفال بالمشرق والمغرب إلا لمانع قهري » (6). 

بل كان ـ جدد الله على قبره الرحمات ـ لشدة تَعلقه بالجناب النبوي الشريف، « في بعض السنين أيضاً يستعمل حفلة المديح النبوي كل جمعة بعد صلاتها، يستدعي جماعة من المنشدين أهل المديح النبوي، ويحضرها من شاء من جميع المعارف والأحباب والملازمين، فتقرأ البردة والهمزية، ويبقى ذلك إلى نحو العصر، ثم تُمد موائد الطعام والشراب، فيأكلون ويشربون ثم ينصرفون قرب صلاة المغرب، دعوة عامة كل جمعة » (7).
٭٭٭
فهذه بعض من مظاهر اهتبال أعلام علماء المغرب الأقصى بالمولد النبوي الشريف، ولو أننا أردنا تتبع ما كان يصنعه غيرهم من الحكام، والفقهاء، والعلماء، والعارفين، لصارت الورقات كتاباً حافلا، لكن في الاختصار غنية عن الإطالة لمن هداه الله تعالى للرشاد.

 قال ابن زمرك رحمه الله:
.
يا مصطفىً وكِمام الكَونِ ما فُتِقتْ * يا مجتبىً وزِنادُ النور ما قُدِحا
لولاك ما أشرقت شمس ولا قمر * لولاك ما راقت الأفلاك مُلتَمَحا
صًدعتَ بالنور تجلو كلّ داجِيةٍ * حتى تَبَيّن نهجُ الحق واتّضحا
يا فاتح الرسل أوْ يا ختمها شرفاً * بوركتَ مختتِماً قُدّست مُفتتِحا
دنوتَ للخلق بالألطاف تَمنحُها * والقلب في العالم العُلويّ ما برِحا
كالشمس في الأفق الأعلى مَجَرّتُها * والنور منها إلى الأبصار قد وَضَحا
كم آية لرسول الله مُعجزةٍ * تكِلّ عن منتهاها ألسُن الفُصحا
إن رُدّت الشمس من بعد الغروب له * قد ظلّلته غمامُ الجوّ حيث نَحا
يا نعمةً عظُمت في الخلق منّتُها * ورحمةً تشملُ الغادين والرَّوَحا
الله أعطاك ما لم يؤته أحداً * والله أكرمُ من أعطى ومن منَحا
حبيبهُ مُصطفاه مُجتباه وفي * هذا بلاغ لمن حلاّك ممتدحا

والحمد لله رب العالمين


-----------------------------
(1) "المطرب بمشاهير اولياء المغرب" للشيخ عبد الله التليدي ، صفحة : 137
(2) المصدر نفسه صفحة : 138
(3) "مرآة المحاسن من أخبار الشيخ أبي المحاسن" لأبي حامد العربي بن يوسف الفاسي ، تحقيق : د. حمزة الكتاني ، صفحة : 279-280
(4) المصدر نفسه صفحة : 281
(5) "مجالس الانبساط بشرح تراجم علماء وصلحاء الرباط" لمحمد بن علي دنية ، صفحة : 87
(6) "المحدث الكبير محمد بن جعفر الكتاني الحسني الفاسي" لمؤلفه : د. محمد بن عزوز ، الجزء الأول ، صفحة : 166-167 
(7) نفس المصدر 1/ 167